صندوق الموسيقى الذي يشتغل كل ليلة عند الثالثة فجراً

ArabStories
0

 






لم يكن “يوسف” يتوقع أن انتقاله إلى بيتٍ جديد سيغيّر حياته، أو بالأحرى… سينهيها كما كان

يعرفها.

كان البيت قديماً نوعاً ما، ذا نوافذ خشبية متشققة وسقفٍ يُصدر أصواتاً خافتة أثناء الليل،

ولكنّه كان رخيص الثمن مقارنة بباقي المنازل في المنطقة. انتقل إليه على أمل بداية جديدة بعد

طلاقه الصعب، لكن ما وجده بين جدرانه كان أبعد ما يكون عن “البدايات”.


في اليوم الأول، وبينما كان ينظف غرفة العلية، وجد شيئاً أثار فضوله… صندوق موسيقى قديم،

مطليّاً بالأسود، تتوسطه نقوش فضية ملتوية كأنها كلمات من لغة غير بشرية.

كان الصندوق يبدو ثقيلاً بشكل غير منطقي، رغم حجمه الصغير. حاول فتحه، لكنه لم ينجح. لم

يكن به أي مفتاح، ولا حتى قفل واضح.

تركه على رف بجانب سريره، دون أن يعطيه أهمية.



لكن تلك الليلة كانت بداية الرعب.

عند الثالثة فجراً تماماً، استيقظ يوسف على صوت موسيقى هادئة… منبعها كان واضحاً:

صندوق الموسيقى.

فتح عينيه ببطء، وظن أنه يحلم.

الصندوق كان مغلقاً… ومع ذلك، كان يعزف لحناً غريباً، لحناً لم يسمعه في حياته، لكنه شعر بأنه

يعرفه.

لحناً يجلب الحزن والخوف في آن واحد.


اقترب من الصندوق ورفعه من مكانه، وما إن لمسته يده حتى توقفت الموسيقى فجأة، كأن

أحداً أغلقها من الداخل.


تنفّس يوسف بعمق، وقال لنفسه:

"أكيد من تأثير التعب… مجرد هلوسة."


لكنه كان يعرف تماماً أنه لم يتوهم.



الفصل الثاني: اللحن الذي لا يتوقف

في الليلة التالية، حدث الشيء نفسه.

وفي الليلة التي تليها أيضاً.


الساعة 03:00 تماماً… نفس اللحن… نفس البرودة التي تجتاح الغرفة… نفس الإحساس بأن أحداً

يقف خلفه ويراقبه.


بدأ يوسف يبحث عن تاريخ البيت، وعن مالكه السابق، فاكتشف أن البيت كان ملكاً لرجل عجوز

يعيش وحيداً. توفي قبل ثلاث سنوات بطريقة لم تُكشف تفاصيلها. لكن أكثر ما أثار غرابة

يوسف هو جملة قرأها في مقال قديم:

"كان الرجل يسمع موسيقى تأتي من العلية كل ليلة قبيل موته."


توقف قلب يوسف للحظة.

العلية… الصندوق… الثالثة فجراً…


كل شيء بدأ يرتبط معاً بطريقة مرعبة.



الفصل الثالث: الظلال الأولى

في الليلة الخامسة، لم تكن الموسيقى وحدها هي التي ظهرت.


بينما كان يوسف مستيقظاً، تحدّث في الهاتف مع صديقه ليشتكي له ما يحدث. قال له صديقه

أن الأمر قد يكون مجرد ضغط نفسي، إلى أن قال يوسف:

"الموسيقى بدأت الآن!"


وما إن قال الجملة حتى سمع صديقه الصوت عبر الهاتف.


لم يعد شكّ يوسف كافياً ليصمت.


بعد أن انتهت المكالمة، جلس يوسف على السرير يحدق في صندوق الموسيقى.

كان الضوء الوحيد يأتي من عمود إنارة خارج النافذة، ينعكس على الصندوق بطريقة غريبة، كأن

النقوش تتحرك.

لم يمضِ وقت طويل حتى لاحظ شيئاً آخر…


ظلٌ صغير… لطفلة… يظهر على الجدار المقابل.


ولم يكن في الغرفة غيره.


هرب يوسف من الغرفة إلى الصالون، وقضى الليل هناك.

لكنه لم يستطع النوم، فالموسيقى وصلت إليه رغم إغلاق الباب، وصوت خطى خفيفة سمعت

تتجوّل في الممر.



الفصل الرابع – زيارة الخبير

في اليوم التالي، قرر يوسف زيارة رجل يُقال عنه إنه يفهم في "الطاقة المظلمة" والبيوت

المسكونة.

استقبله الرجل ونظر إليه نظرة فاحصة قبل أن يقول:

"اللعنة التي تتحدث عنها ليست مرتبطة بالبيت، بل بالشيء الذي وجدته داخله."


تجمّد يوسف.

الرجل لم يكن يعرف بعد قصة الصندوق.


عندما حكى له يوسف ما حدث، ساد الصمت لثوانٍ طويلة قبل أن يقول الرجل بصوت منخفض:

"صندوق موسيقى أسود… بنقوش فضية؟"


"نعم."


"هذا ليس صندوقاً عادياً. إنه ما يسمّيه القدماء حافظة الأرواح. تُسجن فيها روح ماتت بطريقة

غير عادلة، وعندما تدق الثالثة فجراً، يبدأ الحاجز بين عالم الأحياء والأموات بالانخفاض، فتسعى

الروح للظهور."


ارتجف يوسف وقال:

"وماذا تريد الروح مني؟"


ابتسم الرجل ابتسامة حزينة وقال:

"لا تريدك أنت… تريد شيئاً لم تستطع الحصول عليه قبل موتها. وتريد أن تُسمَع قصتها."



الفصل الخامس – القصة المدفونة

عاد يوسف إلى البيت وهو يشعر بأن خطواته أثقل من المعتاد.

في تلك الليلة، قرر ألا يهرب.

جلس أمام صندوق الموسيقى ينتظر الثالثة فجراً.


وعندما دقّ الوقت… بدأ اللحن.


لكن هذه المرة لم يهرب.

نظر مباشرة إلى الظل الذي يظهر على الجدار…

ورأى الطفلة واضحة لأول مرة.


كانت تقف بصمت، شعرها طويل أسود، يلامس الأرض. عيناها واسعتان بلا بياض، وفستانها

ممزق.

لكن أكثر ما شلّ حركته هو فمها… كان مخيطاً بالكامل.


بدأت الطفلة تشير إلى الصندوق، ثم إلى فمها، ثم إلى قلبها.


وكأنها تقول شيئاً… لكنها غير قادرة على النطق.


حينها تذكر يوسف كلام الرجل:

“تريد أن تُسمَع قصتها.”


فجأة… اهتز الصندوق بقوة، وانفتح للمرة الأولى.

أضاء نور خافت من داخله، ورأى يوسف بداخله ورقة قديمة جداً، مكتوب عليها بحروف مرتجفة:


"اسمي ليان… وقد قتلني أبي."


تجمّد مكانه.

قلبه كاد يخرج من صدره، ليس بسبب الكلمات فحسب، بل لأنه بدأ يسمع بصوت خافت جداً…

بكاء طفلة.


ثم… خطوات رجل ثقيل يقترب ببطء من الممر.



الفصل السادس – الأب القاتل

فتح يوسف باب الغرفة ببطء، ونظر إلى الممر.

كان خالياً… لكنه سمع صوتاً آخر… صوت حشرجة نفس… وصوت باب يُفتح ويُغلق في العلية.


جمع شجاعته وصعد السلم.


مد يده إلى مقبض باب العلية… فتحه ببطء…


ورأى مشهداً لن ينساه ما دام حيّاً.


رجل كبير في السن، بملامح مشوهة، يقف في زاوية الغرفة، ظهره منحني، عيناه ميتتان، والدم

ينزل من أصابعه الطويلة بينما يشير إلى يوسف.


ثم قال بصوت خشن كأنه يأتي من قبر:

"هي ليست لك… ابتعد."


تراجع يوسف للخلف، لكن الرجل اندفع نحوه بسرعة غير بشرية، وجهه مشوّه والغضب يملأ

ملامحه.


صرخ يوسف وهرب إلى الأسفل، والظل يلاحقه بسرعة.


لكن قبل أن يصل إلى الباب، توقفت كل الأصوات.


توقفت موسيقى الصندوق…


توقف صوت الخطوات…


توقف كل شيء.


وعندما استدار… وجد الطفلة ليان واقفة خلفه.


رفعت يدها… ووضعتها على قلبه.


وفي نفس اللحظة…


ظهر الأب خلفها، ولكن هذه المرة كان خائفاً منها.


صرخت الطفلة صرخة صامتة… فاهها المخيط انفتح من تلقاء نفسه… والخيوط تساقطت من

حولها.


انفتح فمها على اتساعه، وخرج منه ضوء أبيض قويّ، التهم الرجل بسرعة.


اختفى الأب… واختفى الضوء… واختفت ليان.


وساد الصمت.



الفصل السابع – النهاية التي لم تنتهِ

في الصباح، وجد يوسف الصندوق مفتوحاً، فارغاً تماماً، وكأنه لم يحمل شيئاً بداخله قط.

ومنذ تلك الليلة… لم تعد الموسيقى تُسمَع.


لكن يوسف لم يعد كما كان.


أحياناً، عند الساعة 03:00 فجراً، يشعر بيد صغيرة باردة تلمس كتفه…

ثم يسمع صوت فتاة صغير جداً… تقول:


"شكراً لأنك سمعتني."


وأحياناً… يسمع صوتاً آخر… صوت خطوات ثقيلة…

كأن الأب لم يختفِ تماماً.



إرسال تعليق

0 تعليقات
إرسال تعليق (0)