أصحاب الأخدود

ArabStories
0

 





في زمنٍ بعيدٍ لم تحفظه السجلات، وفي مملكةٍ كان يحكمها ملكٌ متجبّر، بدأت أحداث قصة

أصحاب الأخدود التي خلّدها القرآن في سورة البروج. كانت المملكة تعيش تحت قبضة ملكٍ لا

يرى فوق سلطانه أي سلطان، ولا يقبل من شعبه إلا السجود له واتباع أوامره بلا نقاش. ورغم

قوّته وجيوشه وحصونه، ظلّ يشعر بالخوف من ظهور أي عقيدة تُنافس سلطانه أو تهزّ كيانه.


كان الملك لا يكتفي بالسيطرة على أجساد الناس، بل أراد أن يملك أرواحهم أيضًا. لذلك نشر

السحرة في أنحاء المملكة، وأمر بتعليم الأطفال «علوم القوة» التي يظن أنها ستجعله خالدًا

في عيونهم. وفي هذا السياق يظهر بطل قصتنا: الغلام المؤمن… غلامٌ صغير لم يكن يتجاوز

الثالثة عشرة من عمره، لكنه لم يرضَ بأن يكون أداة في يد الظلم.



البداية: الغلام الذي يبحث عن الحقيقة

كان الغلام يذهب كل يوم إلى الساحر الأكبر ليتعلم منه ما يأمر به الملك. لكنه كان يشعر بأن في

قلبه فراغًا لا يملؤه السحر ولا الأوهام. وفي يومٍ من الأيام، وبينما كان يسلك طريقه المعتاد،

سمع صوتًا يخرج من كوخٍ صغير بين الأشجار. اقترب بحذر، فرأى شيخًا وقورًا ذا لحية بيضاء

يجلس على حصيرٍ بسيط وهو يقرأ من كتابٍ قديم.


سأله الغلام:

– ما الذي تقرأه يا شيخ؟

ابتسم الشيخ وقال:

– أقرأ كلام الله، كلام الحق الذي لا يبدَّل… هل تريد أن تسمع؟


جلس الغلام، وبمجرد أن سمع آيات التوحيد، تغيّر قلبه تغيّرًا لم يعرفه من قبل. أحسّ بحرارة

الإيمان تنساب في روحه كنبضٍ جديد. قال الراهب:

– إن هذا الملك ظالم، وإن دينه باطل، وإن الله هو الملك الحق… فمن آمن به هداه، ومن جحده

خسر الدنيا والآخرة.


كان الغلام يعود كل يوم إلى الراهب ويتعلم منه معاني الإيمان، حتى أصبح قلبه موقنًا بأن الله

هو الواحد القهّار.



الغلام بين السحر والإيمان

بدأت المفارقة تكبر: الغلام يتعلم عند الساحر نهارًا، ويجلس عند الراهب مساءً. كان يشعر بأن

طريق الساحر ظلام، وأن طريق الراهب نور. وكلما زاد إسراف الساحر في تعليمه الشعوذات،

ازداد الغلام نفورًا وتعلّقًا بالحق.


وذات يومٍ اعترض سبيل الغلام وحش ضخم قطع الطريق على الناس، فوقفوا عاجزين. شعر

الغلام أنّ عليه أن يختار: أي الطريقين أصدق؟ قال في نفسه:

– اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذا الوحش بدعائي.


رفع الغلام حجرًا صغيرًا ورماه وهو يقول: باسم الله، فسقط الوحش صريعًا. تعجّب الناس،

وبدأت أول معجزة تظهر على يد الغلام. انتشر الخبر، وبدأ الناس يقتربون منه طالبين الشفاء

والنصح، فتزايَد خوف الملك.



الراهب والغلام أمام الابتلاء

عندما علم الساحر بمعجزة الغلام، خاف أن يفقد مكانته عند الملك، فذهب يحذّره:

– أيها الملك! إن غلامك هذا بدأ يعمل ما يفوق طاقتنا… إن في الأمر خطرًا.


استدعى الملك الغلام وسأله:

– من الذي علمك هذه القوة؟ أهو سحري؟ أم ساحر آخر؟

أجاب الغلام بثبات:

– بل هو الله، ربك ورب العالمين.


كانت الصدمة قاسية، فأمر الملك بحبس الغلام وتعذيبه. ثم أرسل جنوده إلى الراهب، فأخذوه

وضربوه حتى اعترف بأنه علّم الغلام التوحيد. وقف الراهب أمام الملك دون خوف، وقال:

– ربي وربك الله… افعل ما شئت، فإنما تقضي دنيا فانية.


قُتل الراهب على الإيمان، فزاد ذلك الغلام قوة وثباتًا.



محاولات قتل الغلام

أراد الملك أن ينهي الأمر قبل أن يتحول الغلام إلى رمزٍ للناس، فأمر جنوده أن يأخذوه إلى قمة

جبل ليلقوه منه. لكن الجنود عادوا مرتجفين:

– سيدي… الجبل اهتزّ من تحتنا وكاد يرمي بنا!

لقد نجونا بأعجوبة، والغلام نزل قبلنا!


ثم حاولوا إغراقه في البحر، فإذا بالريح تعصف بالسفن حتى كادت تنقلب، بينما الغلام يقف بلا

خوف يقول:

– اللهم اكفنيهم بما شئت.


عاد الجنود مرة أخرى، والملك يزداد جنونًا. عندها قال الغلام كلمة غيّرت مجرى التاريخ:


– لن تستطيع قتلي إلا بطريقة واحدة: اجمع الناس كلهم، وخذ سهمًا من كنانتي، ثم قل

أمامهم: “باسم الله رب الغلام” واضربني به… عندها سأموت.


ظن الملك أن في ذلك نهاية للغلام والنور الذي بدأ ينتشر بسببه، فوافق فورًا.



المشهد الأعظم: موت الغلام وبداية الإيمان

اجتمع الناس في الساحة الكبرى، والجند مطوّقون المكان، والملك يقف في منصة عالية. أمر

بإحضار الغلام وتقييده على جذع خشب. أخذ الملك سهمًا من كنانته، ثم قال على مضض:

– باسم الله رب الغلام!


أصاب السهم الغلام في صدغه فسقط شهيدًا. لكن ما توقعه الملك لم يحدث… لقد هتف

الناس بصوتٍ واحد يهز الأرض:


– آمَنّا بربّ الغلام!

آمَنّا بربّ الغلام!


ظلّ الملك يرتجف وهو يرى سلطانه ينهار أمام أعين الناس. فقد ظن أنه حين يقتل الغلام

سينتهي الإيمان، لكنه لم يعرف أنّ الغلام قد أراد بموته أن يُحيي قلوب الناس.



نار الأخدود… لحظة الاختبار الكبرى

أصدر الملك أمره الجنوني:

– احفروا أخاديد عظيمة على أطراف المدينة!

أوقدوا فيها النيران… من لم يرجع عن إيمانه فاقذفوه في النار!


حُفرت الأخاديد، وأُضرمت فيها النيران الهائلة حتى صارت كبحرٍ من اللهب. اصطفّ المؤمنون

على طرف الأخدود، والجنود يدفعونهم دفعًا.


لكن الناس لم يتراجعوا. كان الإيمان قد ملأ قلوبهم بعد أن رأوا الغلام يموت ثابتًا. تقدمت امرأه

تحمل رضيعًا، فترددت خوفًا على طفلها. فأجرى الله معجزة: نطق الطفل وقال:


– يا أمّاه… اثبتي! فإنك على الحق.


فابتسمت، وتقدمت وهي تضم طفلها ثم هوَت مع المؤمنين في نار الأخدود. كان المشهد

أعظم مشاهد التضحية في سبيل التوحيد.



ملكٌ ينتصر ظاهريًا… ويهزم داخليًا

ظن الملك أنه انتصر بعد أن أحرق مئات المؤمنين، لكن قلبه امتلأ رعبًا. فكيف لملكٍ يدّعي القوة

أن يشعر بالخوف من رجالٍ ونساءٍ وحتّى أطفالٍ لا يملكون سلاحًا؟

إن النار التي أضرمها كانت تحرقه من الداخل أكثر مما تحرق الأجساد التي أُلقيت فيها.


أخذ الجنود يحاولون طمس آثار ما حدث، لكن صدى كلمات المؤمنين ظلّ يتردد في أرجاء

المملكة:

– آمَنّا برب الغلام.


في تلك الليلة، اهتزّت السماء بعاصفةٍ لم يرَ الناس مثلها. كأن الله يعلن أن النار التي ظن الملك

أنها انتصار… إنما كانت سبب هلاكه. فقد سرت النار إلى قصره في حادثة غامضة، وقيل إن

الملك مات محترقًا في سريره، وقيل بل أصابته صاعقة. المهم أن نهاية الظالم جاءت

بالطريقة التي تناسب ظلمه.



الرسالة الخالدة من قصة أصحاب الأخدود

لم تكن قصة أصحاب الأخدود مجرد حادثة تاريخية، بل كانت رسالة خالدة عبر الزمن:


أن الإيمان بالله قوة لا تهزم.


وأن الظلم مهما طال، نهايته زوال.


وأن التضحية من أجل العقيدة تُحيي الأمم.


وأن طفلًا صغيرًا يمكن أن يهزّ ملكًا وجيشًا وجبروتًا.


إنها قصة تُذكّر بأن التوحيد نور، وأن الذين ثبتوا على الحق صاروا قدوة لكل الأجيال.


إرسال تعليق

0 تعليقات
إرسال تعليق (0)