من بين القصص الغريبة والعجيبة التي لا يمكن للعقل أن يستوعبها بسهولة، تبقى حكاية
المدينة المتغيّرة واحدة من أكثر القصص إثارة للجدل والغموض. مدينة تستيقظ كل يوم
بشوارع جديدة، بأحياء لم تكن موجودة في الليلة السابقة، وبسكان لم يرَهم أحد من قبل… ثم
يختفون مع شروق يوم جديد. لا خرائط ثابتة، لا أسماء مؤكدة، ولا تاريخ متّفق عليه. فقط مدينة
تتغيّر بلا توقف، كأنها كائن حيّ ينبض ويتنفس ويتحوّل.
البداية… رسالة وصلت بالخطأ
تبدأ القصة مع سامر، باحث في شؤون المدن المفقودة والأساطير الحضرية. كان يعمل على
مشروع يتعلق بـ"المدن التي تختفي"، حين تلقّى في صندوق بريده الإلكتروني رسالة غريبة بلا
توقيع، تحتوي على جملة واحدة فقط:
"إن أردت أن ترى مدينة لا تثبت على شكل واحد… فتعال قبل طلوع الشمس، وستعرف
الحقيقة".
أسفل الجملة كان هناك موقع عبر خرائط غامضة لا يشبه أي موقع جغرافي معروف. الفضول
قاد سامر إلى تتبّع الرابط. ظهر أمامه اسم غريب:
"مدينة نوفارا"… مدينة لا وجود لها على أي خريطة رسمية.
ورغم ذلك، كانت الصور المرفقة تُظهر شوارع حقيقية، أبنية، أسواقاً، وحتى بشرًا. لكن كل صورة
مختلفة: في واحدة تبدو المدينة مثل مدينة تاريخية من القرن الثامن عشر، وفي أخرى كمدينة
حديثة بناطحات سحاب، وفي ثالثة كقرية بدائية.
ما هذا المكان؟
الرحلة نحو المجهول
قرر سامر الذهاب. قضى 7 ساعات بالسيارة متوجهاً نحو الإحداثيات، وكلما اقترب، كان يشعر بأن الهواء نفسه يتغيّر. الغريب أن الطريق بدأ يختفي تدريجياً من GPS. وبعد وصوله للنقطة الأخيرة، وجد نفسه أمام بوابة حجرية ضخمة لم تكن موجودة على أي خريطة.
كانت هناك لافتة معدنية تعلو البوابة مكتوب عليها:
"مرحباً بك في نوفارا… مدينة اليوم ليست مدينة الأمس".
لم يفهم معنى العبارة، لكنه شعر بأن أمامه لغزاً يستحق الكشف.
اليوم الأول… مدينة بأعين غريبة
عندما دخل، تفاجأ بأن المدينة تبدو قديمة جداً: مبانٍ من الحجر الأصفر، نوافذ خشبية، عربات
تجرها الخيول، وأسواق تُباع فيها بضائع بدائية. لكن الأكثر غرابة لم يكن البناء… بل الناس.
كان السكان يرمقونه بنظرات طويلة، كأنهم يرونه لأول مرة… أو ربما يعرفونه جيداً ولا يستطيع
تذكرهم.
اقتربت منه امرأة عجوز ترتدي وشاحاً أسود وقالت:
"أنت لست من هنا… المدينة ستتغيّر الليلة، إن بقيت، ستفقد شيئاً".
سألها سامر:
– "ماذا تعنين؟"
– "كل يوم يصبح شيئاً مختلفاً. أحياناً نتذكر، وأحياناً نصحو بلا ذاكرة… احذر من الليل."
وبينما يتحدث معها، لاحظ سامر أمراً مرعباً:
ملامح وجه المرأة بدأت تتغير تدريجياً!
عيناها أصبحتا أوسع، شعرها طال لحظة بلحظة، وحتى لون بشرتها أصبح شاحباً. كأنها تتحول
أمامه ببطء.
فزع وسألها:
– "ماذا يحدث لك؟"
– "المدينة… بدأت تغيّر شكلها مبكراً اليوم."
ثم اختفت بين الأزقة.
الليل في مدينة تتنفس
مع حلول الظلام، لاحظ سامر اهتزازاً خفيفاً في الأرض، ليس كزلزال بل كنبضات قلب. كانت
الأبنية تتحرك كأنها تتنفس. الجدران تتمدد وتنكمش ببطء، الأبواب تغيّر مواقعها، والنوافذ
تختفي وتظهر من جديد.
لم يكن الأمر تخيّلاً… كانت المدينة حية.
هرب سامر إلى ساحة كبيرة، وهناك وجد أربع شخصيات يقفون كأنهم ينتظرونه:
رجل يرتدي معطفاً طويلاً ويحمل كتاباً قديماً.
طفلة صغيرة تمسك دمية ممزقة.
امرأة شابة بشعر رمادي رغم صغر سنها.
رجل ضخم بوجه بلا ملامح تقريباً.
قال الرجل صاحب الكتاب:
"لقد دخلت المدينة في الليلة الخطأ… الليلة سنصبح مدينة أخرى."
سألهم سامر:
– "من أنتم؟"
– "نحن فقط… من يتذكر من نكون. كل يوم يستيقظ الناس بشخصيات جديدة. بعضنا كان
طبيباً، ثم استيقظ نجاراً. وبعضنا كان طفلاً، ثم صار عجوزاً… المدينة تغيّر كل شيء."
كانت فكرة مخيفة:
مدينة تعيد تشكيل سكانها كل يوم!
اليوم الثاني… مدينة حديثة لا تشبه ما رآه
عند الفجر، سقط سامر في نوم عميق من شدة الإرهاق. وعندما استيقظ… لم يكن في نفس
المكان.
الشوارع تحولت إلى شوارع حديثة، أرصفتها من الإسفلت، لوحات إعلانية مضيئة، مقاهي
عصرية، وأبراج شاهقة.
والناس… مختلفون بالكامل.
لا أحد يتذكر اليوم السابق. لا أحد يتذكر الحي القديم. كل شيء تغيّر. كل شيء وُلد من جديد.
سأل بائعاً في أحد المحلات:
– "منذ متى بنيّت هذه الأبراج؟"
ضحك البائع وقال:
– "دائماً كانت هنا! هل أنت غريب؟"
نفس الإجابة… تتكرر مع الجميع.
الكثير من الوجوه، ولا ذكرى واحدة
في كل زاوية، كان سامر يشعر بأن هناك من يراقبه. وجوه غريبة، ابتسامات متجمّدة، عيون لا
ترمش كثيراً. بدا وكأن السكان نسخة متكررة تحمل اختلافات بسيطة. كأن المدينة تنتجهم…
وليس الولادة الطبيعية.
في أحد الأزقة وجد صحيفة تحمل عنواناً مخيفاً:
"هل نحن حقيقيون؟"
ومقالة تتحدث عن "أزمة هوية جماعية" وكأن السكان يشعرون بأن ذكرياتهم ليست ملكهم.
لكن الأغرب أن تاريخ الصحيفة اليومي كان…
تاريخ اليوم نفسه الذي وصل فيه سامر.
وكأن المدينة تكتب تاريخها لحظة بلحظة.
اليوم الثالث… مدينة بلا بشر
في الليلة التالية، بدأ سامر يسمع أصواتاً بعيدة:
أصوات ضحك، بكاء، خطوات… لكنها ليست صادرة من بشر حقيقيين.
عند شروق الشمس، استيقظ سامر ليجد المدينة… فارغة تماماً.
لا سكان.
لا سيارات.
لا أسواق.
لا أصوات.
فقط أبنية صامتة، والهواء ثقيل كأنه محمّل بذكريات ليست له.
كان يشعر أن المدينة تراقبه.
ليس السكان…
بل المدينة نفسها.
على الجدران بدأت تظهر كتابات غامضة لم تكن موجودة أمس:
"ابقَ."
"لن تجد الحقيقة خارجنا."
"أنت الآن جزءاً منا."
محاولة الهروب
في تلك الليلة، قرر سامر أن يهرب.
أخرج خريطته… لكنها كانت تعرض شكلاً آخر للمدينة، مختلفاً تماماً عن الذي يراه.
الجسر الذي دخل منه اختفى.
البوابة الحجرية لم تعد موجودة.
الشوارع تقوده دائماً إلى نفس الساحة في المركز.
كأن المدينة تطويه بداخلها.
صرخ سامر:
"لماذا أنا؟! ماذا تريدين مني؟!"
فبدأت الأرض تهتز بقوة… وتحولت الأبنية إلى كتل سوداء تتحرك نحوه.
الحقيقة التي تغيّر كل شيء
ظهر الرجل صاحب الكتاب القديم مجدداً، هذه المرة بملامح أكثر وضوحاً.
قال له:
"نوفارا ليست مدينة… إنها كيان. كانت تجربة فاشلة لعلماء حاولوا خلق بيئة تتغير حسب إدراك
الإنسان. لكنها فقدت السيطرة… وصارت هي من يغيّر البشر."
سأل سامر:
– "ولماذا أنا هنا؟"
– "لأنك كنت تبحث عن المدن المفقودة… وهي تراقب كل من يبحث عنها. أنت الآن جزء من
تاريخها."
– "هل يمكنني الخروج؟"
– "يمكنك المحاولة… لكن إن خرجت، ستنسى كل شيء. المدينة لا تسمح لأسرارها بالبقاء خارج
أسوارها."
اليوم الأخير… أم بداية جديدة؟
في الفجر، وجد سامر ممراً صغيراً بين جدارين يضيء بضوء خافت.
ركض نحوه بكل قوته…
شعر أنه يتحرر، كأن ضغطاً ثقيلاً يرفع عنه.
ثم…
خرج.
وجد نفسه على الطريق السريع، قرب سيارته، كأن شيئاً لم يحدث.
تنفّس بارتياح… لكنه لاحظ شيئاً مقلقاً:
في جيبه… وجد صحيفة من المدينة بتاريخ اليوم.
وعلى الصفحة الأولى عنوان كبير:
"وصل زائر جديد اليوم… اسمه سامر."
ارتجف وهو يقرأ، ثم أكمل السطر التالي:
"غادر نوفارا… لكنه سيعود حين تناديه."
وفي المرآة الجانبية لسيارته، لمح انعكاس شوارع لم تكن خلفه…
شوارع لم يرَها إلا داخل المدينة.
هل خرج فعلاً؟
أم أن المدينة بدأت تتشكّل حوله من جديد؟


