كان سليم رجلاً عادياً تماماً… أو على الأقل كان يعتقد ذلك. يعيش حياة بسيطة، يعمل في
ورشة لإصلاح الساعات، ينام باكراً، ويستيقظ مع أول خيط ضوء. لم يتوقع يوماً أن يصبح بطل
قصة غريبة وعجيبة، ولا أن يُلقى به في عالم غير مفهوم، عالم لا يستطيع فيه سماع البشر…
لكنه يسمع كل ما تفكر فيه الأشياء.
بدأ الأمر مساء بارد من شهر ديسمبر. كانت الرياح تضرب النوافذ، بينما جلس سليم على مكتبه
يصلح ساعة قديمة مرّ عليها أكثر من مئة عام. فجأة، وسط الصمت، سمع صوتاً خافتاً… صوتاً
لا يشبه أي شيء بشري.
قال الصوت:
"أخيراً… أحد يفهم أنني لم أُكسر من تلقاء نفسي."
رفع سليم رأسه بسرعة. لم يكن أحد في الورشة. عاد إلى عمله، محاولاً تجاهل ما سمعه، لكن
الصوت عاد من جديد، هذه المرة أوضح وأكثر جرأة.
"احترس من المسنن الثالث… لقد تعب بما يكفي."
تجمدت يد سليم. نظر إلى الساعة العتيقة أمامه، وإلى مفاصلها المتآكلة… هل من الممكن حقاً
أن الساعة تتحدث؟ أو… تفكر؟ وهل هو فعلاً يسمعها؟
ومن هنا بدأت القصة…
البداية غير المتوقعة
في اليوم التالي، خرج سليم إلى الشارع وقلبه مثقل بالشك. حاول إقناع نفسه بأن ما حدث مجرد
هلوسة بسبب الإرهاق. لكنه لم يبتعد كثيراً قبل أن يسمع صوتاً آخر… هذه المرة من مصباح
الشارع.
"لماذا لا يصلحون أسلاكي؟ أنا أومض منذ أسبوع!"
توقف سليم مذهولاً، ينظر حوله، ولكن لا أحد يكلمه. المصباح فقط… أو فكرة المصباح.
كان الأمر يتصاعد بسرعة، كل شيء حوله أصبح له صوت:
الأبواب، الكراسي، الأسفلت، شجرة الليمون قرب بيته، وحتى القفل القديم في ورشته.
لكن المثير للريبة، بل والمخيف، هو أنه لم يعد يسمع البشر إطلاقاً.
أصبح يعيش وسط صمت بشري كامل، وصخب خلفي من الأفكار الجامدة التي لا يعرف كيف
يتعامل معها.
موهبة أم لعنة؟
في البداية، بدت القدرة الجديدة مفيدة بشكل غريب.
عندما يصلح الساعات، تهمس له:
"ربطني جيداً… البرغي الثاني مرتخٍ"
"لا تستخدم الزيت العادي، فقد يُتلف توازني."
كانت النتائج مذهلة. أصبح أشهر مصلّح ساعات في المدينة، وكل زبون يخرج من ورشته راضياً
كلياً.
لكن النجاح لم يدم طويلاً.
فالأشياء ليست بريئة كما تبدو… لبعضها قصص مظلمة.
ليلة ما، بينما كان يُغلق الورشة، سمع همساً ثقيلاً، قاسياً، من المطرقة الموضوعة على
الطاولة.
"لقد استُخدمت مرة لكسر جمجمة رجل… لازلت أشعر بالاهتزاز."
تراجع سليم خطوة، ثم سمع الستارة تتمتم بصوت مرتجف:
"أرجوك لا تطفئ الضوء… الظلام يذكرني بنار الحريق التي كادت تلتهمني."
وأما الكرسي الخشبي المهترئ، فقال بكآبة:
"كم أتمنى لو يجلس علي أحد دون أن يشتكي من صرير قدمي… لقد تعبت من الاعتذار."
تراكمت الأصوات، تضاربت الهمسات، اختلطت القصص، وكأن كل شيء يريد الحديث معه في
اللحظة نفسها.
بدأ سليم بفقدان أعصابه.
العالم أصبح شديد الصخب… شديد الثقل.
ولأول مرة شعر بأن هذه القدرة لعنة أكثر من كونها موهبة.
سر المنزل رقم 41
وذات ليلة، بينما كان يمر بجانب منزل قديم يحمل الرقم 41، سمع صوتاً مختلفاً… صوتاً عميقاً،
متقطعاً، كأن الجدران نفسها تتنفس، تقول برهبة:
"لا تدخل… لا تدخل… لا أحد يخرج من هنا كما دخل."
توقف سليم أمام الباب الخشبي الذي ينبض خوفاً. عاد يفكر… هل يمكن أن منزلاً كاملاً يفكر
ويتحدث؟
اقترب بفضول، فوضع يده على الجدار، فإذا بالمنزل يصرخ داخله:
"لا تلمسني! لقد ابتلعت أسراراً كثيرة… لا أريد المزيد!"
تراجع سليم، لكن شعوره الغامض دفعه إلى أن يسأل:
"لماذا تحذرني؟"
لم يأته جواب بصوت، بل بصدى ثقيل مشبع بالغموض:
"لأنك مختلف… ولأن الأشياء لا تريد لك أن تختفي مثل الآخرين."
شعر سليم بارتعاش يسري في عموده الفقري. من هم الآخرون؟ وما الذي حدث لهم؟
تجرأ وسأل المنزل:
"ماذا يوجد في الداخل؟"
جاء الجواب أقرب للهمس المذعور:
"شيء… يسمعنا جميعاً."
ارتجف سليم… لأول مرة يشعر أن هناك كياناً غيره يستطيع سماع أفكار الأشياء.
المنزل يتوسل
في الليالي التالية، كلما مرّ سليم قرب منزل رقم 41، كانت الجدران تستغيث به بصوت حزين،
تخبره أن ما بداخل المنزل ليس إنساناً… بل شيئاً صنعه البشر، ثم هرب من سيطرتهم.
"إنه يسمع أفكارنا… ويكرهنا… ويريد الصمت الأبدي."
هكذا قال الباب الحديدي وهو يرتجف من الخوف.
لكن الأشياء أيضاً أخبرته بشيء آخر…
شيئاً مخيفاً:
"إنه يبحث عنك… لأنه يعرف أنك تسمعنا."
المواجهة
في ليلة مظلمة، بينما كان سليم يعمل في ورشته، اشتعل ضوء المصباح فجأة، ثم انطفأ، ثم
عاد يضيء بقوة غريبة.
"إنه قادم."
قالها المصباح بصوت مرتعش.
ثم بدأت الأدوات من حوله ترتجف، البراغي تدور وحدها، الزجاج يئن، الخشب يصرخ… وكأن ورشته
كلها تستعد لشيء رهيب.
وفجأة انفتحت نافذة الورشة بعنف، ودخلت ريح باردة تحمل معها همساً غريباً…
ليس همس شيء جامد.
وليس صوت بشر.
بل صوت مختلف… صوت يشبه احتكاك المعادن ببعضها، يقول:
"أخيراً وجدتك."
وقف سليم مذهولاً، يبحث بعينيه عن مصدر الصوت، لكنه لم ير شيئاً.
"لقد صنعوني لأسمع… لكنني لم أحتمل ضجيج البشر… فهربت."
"أما أنت… فتسمع الأشياء. وتسمعني."
قال سليم بصوت متقطع:
"من أنت؟"
فجاءه الرد:
"أنا الفكرة التي تحررت… الشيء الذي أصبح واعياً… والآن… أريد الصمت."
فهم سليم فوراً ما يعنيه ذلك.
الكيان يريد إسكاته… إلى الأبد.
ثورة الأشياء
قبل أن يقترب الكيان المجهول من سليم، حدث شيء لم يتوقعه.
بدأت الأشياء في الورشة تصرخ بصوت واحد:
"لن نسمح له!"
ارتفعت المطرقة في الهواء، انفجرت المصابيح بضوء قوي، تحركت الطاولة بقوة دافعةً الكيان
للخلف، بينما تحركت المسننات الصغيرة كجيش حديدي يحيط بسليم.
كان المشهد خيالياً… وكأن الأشياء تحارب لأجل حمايته.
قالت الساعة العتيقة بصوت ثابت:
"أنت أول من استمع إلينا… ولن ندعه يأخذك."
بدأت الأدوات المعدنية تصطدم بالكيان، فتتردد صرخة معدنية حادة في أرجاء الورشة.
كان الكيان يضعف… يبهت… صوته يخفت:
"توقفوا… أنتم ملكي… أنا من أعطاكم الحياة!"
لكن الأشياء ردت بصوت واحد:
"نحن لم نكن أحياء… حتى سمعنا نحن صوتنا من خلاله."
وفي لحظات… اختفى الكيان تماماً، كأنه تبخر في الهواء.
بعد العاصفة
عمّ الصمت.
لكن هذه المرة… كان صمتاً نقياً… بلا خوف.
همست الساعة:
"لقد انتهى."
جلس سليم على الأرض، يتنفس بصعوبة، بينما قالت المطرقة بنبرة دافئة لأول مرة:
"شكراً… لأنك سمعتنا."
لكن شيئاً غريباً حدث بعدها…
بدأت الأصوات تخفت… وتموت… واحداً تلو الآخر.
"سليم… لقد دافَعنا عنك… والآن… سننام طويلاً."
صمت المصباح… صمتت الطاولة… صمتت الأدوات… ولم يعد سليم يسمع سوى الهدوء.
عاد يسمع البشر مجدداً… لكن الأشياء؟
لم يعد يسمعها أبداً.
وكأنها ضحّت… لتعيده إلى عالمه.
اليوم، بعد سنوات، ما زال سليم يعمل في ورشته.
لكنه كلما مرر يده على ساعة قديمة أو لمس خشباً عتيقاً، يشعر بأن شيئاً ما بداخله يحنّ لتلك
الأصوات…
أصوات الأشياء التي أحبته، وخافت عليه، وضحّت لأجله.
وأحياناً… في الليالي الهادئة… ي swear أنه يسمع همساً خافتاً من بعيد:
"نحن هنا… وإن لم تسمعنا."


