هل سبق لك أن استيقظت يوماً وأنت متأكد أنك تتذكر حادثة معينة، لتكتشف لاحقاً أنها لم
تحدث مطلقاً؟ أو ربما سمعت أحدهم يذكّرك بموقف قديم، ورغم أنك غير متأكد، يبدأ عقلك في
بناء تفاصيل تدريجياً حتى تصبح وكأنها صورة واضحة؟
هنا تكمن المفاجأة: دماغك قادر فعلاً على صناعة ذكريات كاملة التفاصيل رغم أنها لم تقع في
الواقع. والأغرب من ذلك أن الشخص قد يكون واثقاً منها لدرجة يستحيل إقناعه بأنها مجرد
خيال.
العلماء يسمون هذه الظاهرة “الذاكرة الزائفة”، وهي واحدة من أكثر الظواهر النفسية التي
تُظهر مدى قوة العقل… ومدى قدرته على خداع صاحبه. فالذاكرة ليست كاميرا ولا جهاز
تسجيل، بل هي عملية متغيرة، يعاد بناؤها في كل مرة نسترجعها. وهنا تبدأ المفاجآت: لأن
الدماغ لا يسترجع الذكريات كما هي، بل يعيد “تجميعها”، وقد يضيف إليها ما يراه منطقياً، أو
ما تتأثر به مشاعرك أو توقعاتك أو حتى كلام الآخرين.
عندما نتحدث عن الذكريات الزائفة، فإننا لا نتحدث عن مجرد ارتباك بسيط أو نسيان عابر، بل عن
ذكريات قد تتجذر في العقل لسنوات طويلة، وقد تصبح جزءاً من شخصية الإنسان وقراراته
وتصوراته عن نفسه وعن الآخرين. بعض الناس يتخذون قرارات مهمة بناءً على مواقف لم
تحدث أصلاً، وهذا ما يجعل الموضوع أعمق بكثير مما يبدو.
الدماغ بطبيعته لا يخزّن الحدث كما وقع، بل يخزّن أجزاء متناثرة منه. وحين يحاول الشخص
التذكر، يقوم العقل بدمج هذه الأجزاء وإعادة صياغتها، وفي اللحظة نفسها قد يضيف تفاصيل
لم تكن موجودة لتعويض ما فُقد. هذا التعديل يبدو منطقياً في نظر الدماغ، ولذلك يقوم بتثبيته
على أنه “واقع”.
الشيء المذهل هو أن الإنسان قد يكوّن ذكريات زائفة بمجرد تخيل موقف عدة مرات. فإذا
جلست لعدة دقائق وتخيلت حادثة معينة تحدث لك في طفولتك—حتى لو كانت خيالية—فإن
الدماغ قد يشعر أنها واقعية مادامت مشحونة بشعور قوي أو تفاصيل محددة. هناك تجارب
علمية عديدة زرعت لدى أشخاص بالغين ذكريات وهمية في دقائق، مثل قصة أنهم ضاعوا في
مركز تجاري وهم أطفال، أو أنهم تعرضوا لحادث بسيط. وبعد فترة، أصبح المشاركون يتذكرون
القصة كما لو عاشوها فعلاً، وربما يضيفون لها تفاصيل جديدة!
التأثير الاجتماعي أيضاً يلعب دوراً كبيراً. كلمة واحدة من شخص تثق به قد تغيّر ذاكرتك بالكامل.
عندما يقول لك أحد أفراد العائلة: “واش ما كتذكرش فاش طحّيتي داك النهار فالمدرسة؟”
فأنت تبدأ في البحث داخلك عن أي صورة أو إحساس قد يكون مرتبطاً بها، وإذا لم تجد شيئاً،
سيقوم دماغك بخلق صورة افتراضية، ومع مرور الوقت تصبح هذه الصورة ذكرى ثابتة. قد
تبقى معك عشرين سنة وأنت مقتنع أنها حدثت.
العواطف كذلك تُشوه الذاكرة. حين تكون خائفاً أو غاضباً أو متحمساً، يصبح الدماغ أقل دقة في
تسجيل التفاصيل، ويركز فقط على الإحساس العام. لاحقاً، عندما تتذكر الموقف، سيعتمد
العقل على الإحساس ليعيد بناء الحدث، وليس على التفاصيل الأصلية. وهكذا، قد تضيف إلى
الذكرى ما لم يحدث، أو تحذف منها ما كان مهماً.
الكثير من الذكريات الزائفة لدى الناس تعود إلى الطفولة. الإنسان عموماً لا يستطيع تذكر ما
قبل سن الثالثة، لأن الدماغ في تلك الفترة لا يكون قد اكتمل بالشكل الذي يسمح بتخزين
ذكريات واعية. ولكن رغم ذلك، أغلب الناس يقولون إنهم يتذكرون مواقف من عمر السنتين أو
حتى أقل. هذه الذكريات في الغالب ليست حدثاً حقيقياً، بل خليط من صور سمعوها من
العائلة، أو تخيلات طفولية، أو مشاهد من أحلام قديمة تم دمجها مع الواقع.
الأمر لا يتوقف عند الطفولة. هناك أيضاً ذكريات لسنوات لاحقة تتكون من سرد الآخرين للحدث.
أحياناً يحكي أحدهم قصة لك عن نفسك، ومع تكرار سماعها، تصبح جزءاً من ذاكرتك الخاصة،
حتى لو كنت حينها غير حاضر أو لم ترى المشهد بالطريقة التي تراها اليوم.
التجارب النفسية كشفت أكثر من ذلك. في بعض الدراسات، اعترف بعض الأشخاص بجرائم لم
يرتكبوها قط، فقط لأن الضغط النفسي جعلهم يشكون في ذكرياتهم الأصلية. ومع الإلحاح،
يبدأ الدماغ في خلق صور غير حقيقية لإقناع نفسه بالانسجام مع القصة. هذا يوضح أن الذاكرة
ليست مجرد مرآة للماضي، بل أداة نفسية تحاول باستمرار تفسير العالم—even لو اضطرت
لاختراع تفاصيل جديدة.
المشكلة ليست فقط أن الدماغ يصنع ذكريات وهمية، بل إنه يجعلك واثقاً فيها. والثقة هنا هي
الجزء الأخطر، لأن الشخص قد يتحدى العالم كله دفاعاً عن شيء لم يحدث إطلاقاً. وهنا نرى
كيف تشكل الذكريات الزائفة الخلافات العائلية، سوء الفهم، بل وحتى القضايا القانونية.
لكن لماذا يقوم الدماغ بكل هذا؟ لماذا يخدعنا؟
الحقيقة أن الدماغ لا يتعمد الخداع، لكنه يحاول أداء وظيفته بأفضل شكل. هدفه الأساسي
ليس تسجيل الماضي، بل مساعدتك على البقاء. لذلك يقوم بتعديل الأحداث بطريقة تجعلك
تتعلم منها، أو تحميك من الألم، أو تمنحك إحساساً بالقوة. لهذا قد يغيّر الذكريات المؤلمة
لتصبح أقل حدة، أو يعقدها لتجعلك أكثر حذراً في المستقبل.
الدماغ أيضاً يكره الفراغ. عندما يجد نقصاً في المعلومات، فإنه يملأه. وهذا ما يجعل الذكريات
تتغير مع مرور الوقت. في كل مرة تتذكر فيها موقفاً، فأنت في الحقيقة تعيد بناءه من جديد،
وقد تختلف النسخة الجديدة قليلاً عن السابقة. ومع تكرار التذكر، تتغير القصة أكثر فأكثر، حتى
تصبح مختلفة تماماً عن أصلها.
هذا أيضاً يفسر لماذا قد تختلف روايتك لحدث معين عن رواية شخص آخر حضر نفس الحدث.
كل واحد منكما حفظ أجزاء مختلفة، وكل واحد أعاد بناء القصة بطريقته الخاصة، فأصبحت
هناك “نسخ متعددة من الماضي”.
ومن الأمور الغريبة أن الدماغ لا يفرق دائماً بين ما رأيته فعلاً وما رأيته في صورة أو فيديو. بعض
التجارب أثبتت أن صوراً مزيفة معدلة للفوتوشوب جعلت الناس يتذكرون أحداثاً لم يعيشوها،
فقط لأن الصورة قدمت “دليل بصري” للدماغ، وإن كان دليلاً خاطئاً. الدماغ هنا يفضل ما هو
ملموس على ما هو منطقي.
الأحلام أيضاً تندمج مع الذاكرة الواقعية. إذا حلمت حلماً قوياً بتفاصيل واضحة وعاطفة قوية،
فقد تندمج هذه الصور في ذاكرتك، وبعد شهور قد تجد صعوبة في تحديد هل كان حلماً أم حدثاً
حقيقياً. الكثير من الناس يتذكرون مواقف كاملة ويقسمون أنها حقيقية، بينما هي في الأصل
مشاهد من أحلام قديمة.
ومع تطور العلم، بدأت النتائج تكشف حقائق أغرب… كأن الذكرى الواحدة يمكن أن تتغير عشرات
المرات في حياة الشخص دون أن يشعر. أو أن بعض الناس يتذكرون لحظات بناءً على ما
قرأوه أو شاهدوه في أفلام، دون أن يكون لهم أي تجربة واقعية مشابهة. الدماغ يدمج المعرفة
والمشاعر والخيال في قالب واحد، ويقدمه لك على أنه “ماضيك”.
السؤال الآن: هل يمكن أن نثق بذكرياتنا؟
الجواب: ليس دائماً. الذاكرة ليست دقيقة مئة في المئة، ولا يمكن الاعتماد عليها كحقيقة
مطلقة، لكنها ليست عديمة القيمة أيضاً. هي تمثيل تقريبي للماضي، وليست نسخة مثالية
منه. لهذا من الأفضل دائماً مراجعة أنفسنا، خاصة عندما نشك في دقة حدث معين أو عندما
نسمع روايات متناقضة.
لكن كيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من الذكريات الزائفة؟
الطريقة ليست سهلة، لكنها ممكنة. أولاً، يجب كتابة الأحداث المهمة فور وقوعها، لأن الكتابة
تحفظ النسخة الأصلية قبل أن يشوهها الدماغ. ثانياً، من الأفضل عدم إعادة سرد نفس
القصة عشرات المرات، لأن كل إعادة تُعدّل بعض تفاصيلها دون وعي. ثالثاً، يجب أخذ الحذر من
تأثير الآخرين على ذاكرتنا، فليس كل ما يقوله الناس حقيقة—even لو قالوه بحسن نية. رابعاً،
الاعتماد على الصور، الرسائل، التسجيلات، أو أي دليل خارجي يساعد على تثبيت الحقيقة.
خامساً، ممارسة اليقظة الذهنية يجعل الوعي أكبر باللحظة، وبالتالي تخزين الذكريات بشكل
أدق.
في النهاية، تظل الذاكرة واحدة من أكثر وظائف الدماغ سحراً وتعقيداً. فهي قادرة على
مساعدتنا على التعلم والنمو، لكنها أيضاً قادرة على خلق عالم كامل داخلي لا علاقة له بالواقع.
وحين تكتشف أن عقلك قد يكون أعاد كتابة قصص من حياتك… ستدرك أن الماضي ليس دائماً
ما نعتقده، وأن الحقيقة أحياناً تكون مجرد نسخة أخرى مما يتذكره العقل.


