في زمنٍ غابر، على أرض بابل التي كانت يومًا ملتقى الحضارات والعلوم، وُلد رجلٌ من أهل الدنيا
اسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن حام، أحد أكثر ملوك الأرض طغيانًا وتجبرًا. ورغم أن القرآن
الكريم لم يذكر اسمه صراحة، إلا أن كتب السيرة والتفاسير وأقوال الصحابة والتابعين دلّت على
أنه هو الملك الذي جادل إبراهيم عليه السلام في ربه.
وقد بقيت قصّته شاهدًا خالدًا على مصير كل من يطغى في الأرض، ويزعم ملكًا واستكبارًا لا
يليق إلا بالله.
🏛️ بدايات النمرود وصعوده إلى الحكم
نشأ النمرود في بيئة تُعظّم القوة والسطوة؛ فقد كانت مملكة بابل في ذلك الزمان قويةً
بسورها وبنائها وجيوشها. وكان أهلها يعبدون الأصنام والنجوم والكواكب، ويتبعون ملوكهم
اتّباعًا أعمى. وبعد وفاة والده، اعتلى النمرود العرش وهو شاب طموح يحمل في قلبه بذور
الكبر.
ومع مرور السنين، أخذ يُظهر من الطغيان ما لم يسبقه إليه أحد، حتى قيل إنه أول من وضع
التاج على رأسه من ملوك الأرض، وأنه حكم أربعمائة سنة ملأها ظلمًا واستبدادًا.
كان النمرود محاطًا بالمنافقين الذين يُضخّمون غروره، ويخبرونه بأنه فوق البشر، بل فوق
القوانين والسنن. حتى وصل به الكبر إلى أن ادّعى أنه إلهٌ على الأرض، يتحكم في مصائر الناس،
ويعطي الحياة والموت لمن يشاء.
🌑 عبادة النار… والطريق إلى الضلال
في مملكة النمرود، انتشرت عبادة النار والنجوم، وكانت الأصنام تملأ المعابد. ولم يكن أحد يجرؤ
على مخالفة الملك، فقد جعل لنفسه هيبةً وسطوة تتجاوز كل حدود.
لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يترك عباده في ظلمات الضلال؛ فأرسل إليهم إبراهيم الخليل عليه
السلام، الذي جاء برسالة التوحيد، يفضح حجج المشركين، ويُبيّن فساد عبادة الصنم والملك.
وكان لقاء إبراهيم بالنمرود نقطة التحوّل الكبرى التي كشفت حقيقة هذا الطاغية، وأظهرت
ضعف ملكه أمام نور الإيمان.
🕌 المناظرة الكبرى: حين جادل النمرودُ ربَّه
ذكر القرآن الكريم هذه المواجهة في سورة البقرة:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾
وهي إشارة واضحة إلى أن الطغيان يحدث غالبًا بسبب النفوذ والسلطة.
دخل إبراهيم عليه السلام على النمرود، فأخذ الملك يسأله متكبّرًا:
ـ من ربّك يا إبراهيم؟
فقال الخليل عليه السلام بكل ثبات:
ـ ربي الذي يحيي ويميت.
فقال النمرود مغاليًا في الكفر:
ـ أنا أحيي وأميت!
ثم أمر بإحضار رجلين من السجن؛ فقتل أحدهما، وأطلق الآخر، وقال متباهياً:
ـ ها أنا أحييت هذا، وأمّتُّ ذاك!
فأقفله إبراهيم بحجة لا يستطيع واحدٌ من البشر ردّها:
ـ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.
فبهت النمرود، وانقطع لسانه أمام الحق، وظهر ضعفه أمام الناس، لكنه لم يرجع إلى رشده،
بل ازداد كفرًا واستكبارًا.
🔥 محاولة قتل إبراهيم بالنار
لم يحتمل النمرود أن يرى دعوة إبراهيم تنتشر بين الناس، فقرر التخلص منه. فجمع قومه وقال
لهم:
ـ ابنوا لي أعظم نار عرفتها البشرية، وألقوا فيها هذا الشاب الذي ادعى علينا الكذب!
وبُنيت منجنيقات ضخمة، وجُمع الحطب سنوات، حتى صارت النار التي أشعلوها يُرى لهبها من
مسافات بعيدة.
لكن إرادة الله كانت فوق إرادة النمرود، فقال سبحانه:
﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ﴾
فخرج الخليل من النار سالمًا، وقد ذهل الناس، واشتد غيظ النمرود الذي لم يستطع تصديق ما رآه.
☁️ تحدّي النمرود لله… وبداية النهاية
بعد هزيمته في المناظرة، وإفلات إبراهيم من النار، لم يتوقف النمرود عن طغيانه.
بل بدأ يزداد جنونًا، حتى زعم أنه قادر على محاربة رب العالمين. ونُقل في بعض كتب التفاسير أنه
بنى برجًا عاليًا ليبلغ السماء، أو أرسل جيشًا يرشق السماء بالسهام، فعادت عليهم ملطخة
بالدماء خداعًا من الله لهم، فظنّ أنه انتصر!
هذا الغرور لم يمر دون عقاب.
🦟 العقاب الذي لم يتوقعه أحد: جندٌ من أصغر مخلوقات الله
مع عظمة مُلكه وقوة جيشه، لم يتوقع النمرود أن نهايته ستكون على يد ذبابة صغيرة.
فقد أرسل الله عليه وعلى جيشه الناموس (الذباب الصغير)، فكان جنود النمرود يفرون منه دون
جدوى، وغرقت المملكة في كارثة لم يعرف لها القوم مثيلًا. ثم دخلت واحدة من هذه الحشرات
الصغيرة في أنف النمرود، وبدأت تصعد إلى جمجمته شيئًا فشيئًا.
وعندها بدأ الملك المتجبّر يضرب رأسه بيديه، ثم يأمر جنوده أن يضربوه بالعصي والنعال ليخفف
الألم. وقيل إنه كان يضرب رأسه بعنف حتى سال الدم.
لقد أصبح الملك الذي زعم أنه “يحكم الحياة والموت” عاجزًا أمام أضعف مخلوقات الله.
وكلما اشتد الألم عليه، ازداد الناس يقينًا بأن هذا عقاب من رب العالمين.
⚰️ النهاية المحتومة للطغيان
ظل النمرود سنوات يعاني من الألم، حتى مات موتًا مهينًا، لا يشبه سطوته، ولا يمثّل هيبته التي
كان يفتخر بها.
وماتت معه مملكة الظلم التي بناها، وبقيت قصته شاهدًا على أن الطغيان لا يدوم مهما طال،
وأن القوة مهما عظمت فهي لا تساوي شيئًا أمام قدرة الله.
🌿 العبرة من قصة النمرود
تُظهر قصة النمرود أن الصراع بين الحق والباطل ليس صراع قوة مادية، بل صراع عقيدة
وإيمان.
فإبراهيم عليه السلام لم يكن يملك جيشًا، ولا قوة، لكنه كان يحمل نورًا من الله، فانتصر على
ملكٍ حكم الأرض بقوته وجبروته.
وتُرينا القصة أيضًا أن الله يسخر أضعف مخلوقاته لإهلاك من ظنّ أنه فوق الحساب.


