في مساءٍ بارد من أمسيات الشتاء، كانت "ليان" تجلس قرب نافذتها المعتادة، تراقب قطرات
المطر وهي تهبط فوق زجاج الشرفة كأنها تنقر باب قلبها. وحين رفعت عينيها نحو السماء،
شعرت أن هناك شيئاً ما يناديها… شيئاً غامضاً، قريباً منها، لكنها لم تستطع أن تسميه.
كانت ليان امرأة اعتادت أن تخفي مشاعرها. عاشت حياتها بين العمل والمنزل، تحب الهدوء
كثيراً، وتخشى الارتباط أكثر. ليس لأنها لا تؤمن بـ الحب الحقيقي، بل لأنها كانت تخاف الخسارة،
تخاف أن تمنح قلبها لمن لا يستحق، أو لمن قد يرحل يوماً كما رحل الجميع.
لكن في ذلك الشتاء، كان هناك رجل واحد يرى ما لا يراه الآخرون. رجل أحبها منذ أعوام بصمتٍ
كامل، دون أن يطلب شيئاً، ودون أن تكشف هي ذلك. ذلك الرجل كان "يوسف".
كان يوسف يعمل معها في نفس الشركة. رجل هادئ، يمتلك نظرة دافئة، وصوتاً مستقراً
يبعث الطمأنينة. لم يكن يظهر إعجابه، ولم يكن من النوع الذي يفرض وجوده أو يلفت الأنظار.
لكنه كان يحبها… يحبها كما لو أن العالم سيتوقف غداً.
منذ سنوات، كان يراقب تفاصيلها الصغيرة:
كيف ترتّب شعرها حين تكون متوترة،
كيف تمسك كوب القهوة بكلتا يديها صباحاً،
كيف ترفع حاجبيها عندما تستغرب،
وكيف تبتسم عندما يروق لها شيء.
ولم تكن ليان تعلم شيئاً.
في ذلك اليوم، طلبت الشركة من الفريق العمل على مشروع جديد بشكل جماعي، وكان يوسف
وليان جزءاً من نفس الفريق. وبسبب ضغط الوقت، اضطرا للعمل معاً لساعات طويلة بعد
الدوام.
في إحدى الليالي، كانت الساعة تقارب الحادية عشرة، عندما لاحظ يوسف أن ليان ترتجف قليلاً
بسبب البرد. اقترب منها ووضع معطفه على كتفيها دون أن يقول شيئاً.
رفعت رأسها إليه، وقالت بابتسامة خفيفة:
— "شكراً يا يوسف… أنت دائماً… لطيف."
تلعثم قليلاً، ثم قال:
— "لا بأس… الجو بارد هنا."
لكن الحقيقة أن قلبه كان أكثر دفئاً من أي معطف.
مع مرور الأيام، بدأت ليان تشعر بشيء غريب. كانت تلاحظ أن يوسف يحرص دائماً على راحتها،
يوفّر لها ما تحتاجه قبل أن تطلب، ويساعدها في العمل دون مقابل. لكنها لم تكن تفكر أبداً أن
هذا قد يكون حباً صادقاً.
كانت تقول لنفسها:
"يوسف شخص طيب… وهذا كل شيء."
لكن قلبها كان يشعر بشيء آخر… شيء لم تكن مستعدة للاعتراف به.
وفي مساء أحد الأيام، بينما كانا يعملان في مكتب شبه فارغ، انقطعت الكهرباء فجأة. توقفت
الأجهزة، وتعطلت الإضاءة، وساد صمت غريب. ولم يبقَ إلا ضوء هاتف يوسف الذي أضاء
المكان قليلاً.
جلست ليان على الكرسي، ووضعت يدها على قلبها خوفاً من الظلام. لاحظ يوسف ذلك،
فاقترب منها وقال:
— "لا تخافي… أنا هنا."
كان صوته مطمئناً لدرجة جعلتها تشعر بالأمان لأول مرة منذ سنوات طويلة.
قالت بصوت منخفض:
— "أنا فقط… لا أحب الظلام."
ابتسم يوسف وأجاب:
— "سأبقى معك مهما طالت العتمة."
لم تفهم ليان أن جملته لم تكن مجرد كلمات… بل كانت اعترافاً مبطناً، وإعلان حب لم يجرؤ على
قوله بصراحة.
مرت أسابيع، ومع اقتراب انتهاء المشروع، بدأت ليان تشعر بفراغ غريب. كانت تسأل نفسها:
"ماذا لو انتهى المشروع؟ هل سيتوقف يوسف عن الاهتمام بي؟ هل سيعود شخصاً عادياً في
حياتي؟"
ولأول مرة، شعرت بالخوف من رحيل شخص… لم تتخيل يوماً أنها قد تحبه.
لكن يوسف كان يعيش صراعاً أكبر. فقد علم من الطبيب قبل شهر أن حالته الصحية ليست
مستقرة، وأنه قد يدخل في عملية خطيرة قريباً. لم يخبر أحداً… ولا حتى ليان. كان يريد فقط أن
يرى ابتسامتها قبل أن يختفي من حياتها بهدوء، كما عاش فيها بهدوء.
وكان يحبها… أكثر مما قد يسمح له الوقت.
في صباح أحد الأيام، لم يذهب يوسف إلى العمل. ولم يجب على هاتفه. شعرت ليان بقلق عجيب،
لم تفهمه لكنها لم تستطع تجاهله. توجهت إلى منزله بعد ساعات من الانتظار، وهناك أخبرها
الجار أنه نُقل إلى المستشفى ليلاً.
في تلك اللحظة، انهار شيء داخل قلبها. فهمت فجأة كل شيء. فهمت لماذا كان يهتم بها
بتلك الطريقة، لماذا كان ينظر إليها بذلك العمق، ولماذا كان وجوده يعني لها أكثر مما توقعت.
ركضت نحو المستشفى، وكانت ترتجف كأن العالم ينهار تحت قدميها.
دخلت غرفة الطوارئ، ورأته مستلقياً على السرير، وجهه شاحب لكنه ما يزال يحمل ذلك الهدوء
الذي تعرفه.
اقتربت منه والدموع في عينيها.
— "يوسف… لماذا لم تخبرني؟"
فتح عينيه ببطء، وعندما رآها ابتسم.
— "لم أرد أن أقلقك."
جلست قربه، أمسكت يده لأول مرة، شعرت بنبضه الضعيف، فخفق قلبها بقوة مؤلمة.
— "أنت… مهم بالنسبة لي… أكثر مما تتخيل."
نظر إليها طويلاً، وكأن العمر كله كان ينتظر هذه اللحظة.
— "وأنتِ… كل ما تمنيت أن أعيشه."
ارتجفت ليان.
— "لماذا كنت تختفي بعيداً عني؟"
تنفس بعمق، وقال بصوت منخفض:
— "لأني أحبك يا ليان… أحبك كما لو أن العالم سيتوقف غداً… ولم أكن أريد أن أثقل عليك بهذا
الحب."
في تلك اللحظة… شعرت ليان أن كل السنوات الماضية كان ينقصها شيء واحد: شخص يحبها
بصدق.
وضعت يدها على خده وقالت بصوت مكسور:
— "وأنا… أحبك أيضاً… حتى لو لم أعرف ذلك إلا الآن."
بعد أيام من العلاج، تحسنت حالة يوسف قليلاً. أصبحت ليان تزوره يومياً، تجلس معه
بالساعات، تخبره عن كل شيء، وتستمع لصوته وكأنها تخاف أن تفقده.
كان الطبيب يقول أن المرض خطير، لكن هناك فرصة كبيرة للتحسن إن استمر العلاج.
قالت ليان للطبيب:
— "افعلوا كل شيء… هذا الرجل ليس شخصاً عادياً في حياتي."
وفي مساء دافئ، بينما كانت تقرأ له كتاباً وهو ينصت، أمسك يدها فجأة وقال:
— "ليان… هل تعلمين ما الذي جعلني أتمسك بالحياة؟"
نظرت إليه بحنان:
— "ماذا؟"
— "فكرة أنني قد أحيا يومًا آخر… لأراك فقط."
اغرورقت عيناها بالدموع، وضمت يده بقوة.
— "لن أتركك… مهما حدث."
ابتسم يوسف، وكانت ابتسامته مليئة بالسلام، كأن قلبه وجد أخيراً ما كان يبحث عنه.
مرت الشهور، وتحسنت حالة يوسف تدريجياً. عاد إلى العمل، لكن هذه المرة… لم يكن يخفي
مشاعره. كان يمشي مع ليان علناً، ويجلس معها، ويتحدث معها، وكأن العالم كله أصبح رهينة
لهذه العلاقة العاطفية الجميلة.
وصارت الشركة كلها تعرف أن قصة حب جميلة تنمو بينهما، حبٌ هادئ لكنه قوي… مثل شتاءٍ لا
يرحل إلا ليترك الزهور خلفه.
وفي مساء يوم ربيعي، كانت الشمس تلون السماء بألوان وردية ساحرة. وقف يوسف أمام
ليان، أمسك يدها، وقال وهو ينظر إلى عينيها بتلك الطريقة التي جعلتها تقع في حبه من جديد:
— "ليان… لقد أحببتك حين لم تكوني تعلمين… وظللت أحبك حين لم تكوني جاهزة… وسأحبك
دائماً، سواء توقف العالم غداً أو استمر ألف عام."
ابتسمت ليان، واقتربت منه، وقالت:
— "وأنا… أحبك كما لو أنني وجدت العالم كله في قلب رجل واحد."
ثم ضمّته بقوة، كأنها تخشى من فقدانه مرة أخرى، لكنه همس في أذنها:
— "لن أرحل… ليس بعد الآن."
وهكذا… لم يتوقف العالم.
لكنه توقف بالنسبة لهما في تلك اللحظة؛
لحظة حب صادق، نادر، يشبه المعجزة.


