ذو الكفل عليه السلام: رجل العدل والصبر

ArabStories
0

 






في زمنٍ بعيدٍ، بين أزمنة الأنبياء والرسل، وُلد رجلٌ صالح تميّز بالصدق والورع والعدل، حتى صار

 مثالاً في الصبر والإخلاص لله تعالى. لم تذكر لنا النصوص الكثيرة من حياته، لكنّ القليل الذي ورد

 عنه كان كافيًا ليخلّد اسمه في كتاب الله الكريم، في سطرٍ واحدٍ جمع بين الصبر والفضل

 والاختيار الرباني.


قال الله تعالى في سورة الأنبياء:


"وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ"،

وفي سورة صّ قال سبحانه:

"وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ".


هاتان الآيتان القصيرتان كانتا كافيتين لتجعلان اسم ذو الكفل عليه السلام يلمع بين أنوار

 الأنبياء والأولياء.



🌅 معنى الاسم وسرّ التسمية

اختلف العلماء في نبوّته، فمنهم من قال إنه نبيّ من أنبياء الله، ومنهم من قال إنه رجلٌ صالح

 من عباد الله الأخيار. وأصل اسمه يعود إلى كلمة الكِفْل، أي “النصيب أو الحظّ”، وسمّي ذو

 الكفل لأنّه تكفّل بعملٍ عظيم التزم به أمام الله وقومه، ولم يخلف وعده قط.


وقيل إنه تكفّل أن يحكم بين الناس بالعدل، وأن لا يغضب، وأن يواصل عبادته دون انقطاع.

 ووفّى بما عاهد عليه حتى صار مضرب المثل في الوفاء بالعهد والالتزام بالحق.



🕊️ نشأته وحكمته المبكرة

نشأ ذو الكفل في بيتٍ مؤمنٍ، محبٍّ للخير، وكان منذ صغره يميل إلى العدل وحب الناس. لم يكن

 يسعى إلى الجاه أو المال، بل كان يرى في كل موقفٍ فرصةً للخير.

كان قومه يعيشون فتراتٍ من الفوضى والظلم، حتى ظهر بينهم نبيّ صالح دعاهم إلى عبادة الله

 وإقامة العدل. ولما تقدّم ذلك النبي في السن، أراد أن يختار من بعده من يحمل الأمانة ويحكم

 بين الناس بما يرضي الله.


فجمع الناس وقال:

"من يتكفّل لي بثلاثٍ أُوَلّيه الحكم بعدي؟

أن يصوم النهار، ويقوم الليل، وألا يغضب أبداً."


وقف الجميع صامتين، فهذه صفات صعبة لا يقدر عليها إلا من رزقه الله صبراً عظيماً.

لكن شاباً هادئاً تقدّم بخطواتٍ ثابتة وقال:

"أنا أتكفّل لك يا نبي الله."


نظر إليه النبي مليّاً ثم قال:

"هل تطيق ذلك يا بني؟ فالأمر ليس يسيراً."

فأجاب بثقة المؤمن:

"إن شاء الله أقدر، وسأكون من الصابرين."


ومنذ ذلك اليوم سُمّي ذا الكفل، لأنه تكفّل بأداء ما عجز عنه غيره.



⚖️ العدل بين الناس

تولّى ذو الكفل الحكم، وجعل نصب عينيه أن لا يُظلم أحد في زمنه.

كان يقضي بين الناس بالحق، لا يفرق بين غنيٍ وفقير، ولا بين قويٍ وضعيف. وكان إذا جلس

 للفصل في القضايا، رفع رأسه إلى السماء ودعا قائلاً:


“اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وجنبني اتباعه.”


وكان الناس يخرجون من مجلسه وهم مطمئنون إلى عدله، حتى قالوا عنه:

"لقد وهبنا الله حاكماً لا ينام حتى يطمئن قلب كل مظلوم."


وكان يخصّص جزءاً من الليل للعبادة والتأمل. لا يضيع ساعة إلا في ذكر الله، وكان يبيت قائماً

 يصلي، وإذا أذن الفجر، خرج إلى الناس ليقضي مصالحهم بالرفق والحكمة.



😔 الابتلاء العظيم

ولأن الله يختبر عباده الصالحين، ابتُلي ذو الكفل كما ابتُلي الأنبياء من قبله.

ففي يومٍ من الأيام أراد الشيطان أن يوقعه في الغضب وينقض وعده الذي عاهد به الله.

فتنكر له في هيئة رجلٍ عجوز جاءه في مجلس القضاء، وبدأ يشكو مظلمته، فاستمع إليه ذو

 الكفل بكل صبرٍ واهتمام.


لكن العجوز كان يطيل الحديث ويكرره بلا نهاية، ويأتيه في كل ساعة يشغله عن الناس

 والعبادة.

ومع ذلك، لم يغضب ذو الكفل قط، بل كان يقول بلطف:

“يا شيخ، إن الحق لا يضيع، وسأسمعك ما استطعت.”


وفي اليوم الثالث، حاول الشيطان أن يدخل عليه في وقت نومه، فتسلل إلى غرفته وهو مغلق

 الباب بإحكام.

فاستيقظ ذو الكفل فزعاً وقال:

“من هذا؟ كيف دخلت وقد أغلقت الباب؟”

فقال الشيطان بصوتٍ متغير:

“أنا الذي أشغلتك عن عبادتك وقضائك، أردت أن أريك أنك بشر يمكن أن يغضب ويعجز.”


ابتسم ذو الكفل وقال:

“اذهب عني، فلن تقدر على من استعان بالله. لن تغضبني ولن تضعفني، فالله ناصري ومعيني.”


حينها علم الشيطان أنه لا سبيل له عليه، كما قال الله في كتابه:


"إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ."



🌿 مكانته عند الله

ثبت ذو الكفل على صبره وعدله حتى آخر لحظة من حياته، فاختاره الله من الصابرين الأخيار.

لم يُعرف له معجزة ظاهرة كالتي كانت للأنبياء الآخرين، لكنّ معجزته كانت في نفسه: في ضبطه

 لغضبه، وثباته على الحق، وعدله بين الناس دون كلل.


قال المفسرون:

إن الله ذكره مع الأنبياء العظام مثل إسماعيل وإدريس واليسع ليدلّ على مكانته العالية، وأن

 العدل والصبر من أعظم صفات الأنبياء والصالحين.



🌠 دروس من حياة ذي الكفل عليه السلام

قصة ذو الكفل ليست مجرد ذكر عابر في القرآن، بل هي منارة أخلاقية عظيمة تعلمنا دروساً لا

 تُقدّر بثمن:


الوفاء بالعهد: من يتكفّل أمراً أمام الله، فعليه أن يفي به مهما كانت الصعوبات.


العدل أساس الحكم: العدل لا يحتاج إلى قوة بل إلى إيمان وحكمة.


الصبر سلاح المؤمن: لا انتصار بلا صبر، ولا طمأنينة بلا رضا.


العبادة لا تُلهي عن خدمة الناس: فذو الكفل جمع بين العبادة والعمل، بين السجود والحكم،

 بين الصلاة والمسؤولية.


الشيطان لا يغلب إلا الضعيف الإيمان: فكل من تمسك بالله عصمه من وساوسه.



🌄 وفاته وإرثه المبارك

لما كبر ذو الكفل وضعف جسده، جمع قومه وقال لهم:

“لقد أدّيت ما عاهدت عليه ربي، فإياكم والظلم، واحذروا أن يطغى فيكم الغضب أو الكبر.”


ثم ودّعهم بابتسامةٍ هادئةٍ، وكأنّه يعلم أن لقاءه بربه قد اقترب.

توفي وهو راضٍ مطمئن، بعد أن ترك أمةً تسير على نهج العدل والصبر.


وبعد وفاته، ظلّ الناس يذكرونه في صلواتهم، ويتناقلون قصته جيلاً بعد جيل، كرمزٍ للرجل

 الصالح الذي لم يعرف الغضب، ولم يظلم أحداً، ولم ينسَ ربه طرفة عين.



قصة ذو الكفل عليه السلام درس خالد في معنى التكليف والمسؤولية.

لم يكن نبياً عظيماً بمعجزاتٍ خارقة، بل كان عظيماً بأخلاقه وصبره وعدله.

وفي عالمٍ يكثر فيه الظلم والغضب، تظلّ سيرته دعوةً مفتوحة لكل إنسان أن يكون مثل ذي

 الكفل: هادئاً في الغضب، عادلاً في الحكم، صادقاً في الوعد، صبوراً في البلاء.



إرسال تعليق

0 تعليقات
إرسال تعليق (0)