في مدينة صغيرة على أطراف الصحراء، وصل الأستاذ سامر ليبدأ أول عامٍ له في التدريس
بمدرسةٍ قروية بسيطة. كان شابًا طموحًا في الثلاثين من عمره، قادمًا من المدينة الكبرى،
يحمل في قلبه أحلامًا عن إصلاح التعليم ومساعدة الأطفال في المناطق النائية.
لم يكن يعلم أن القدر يُخبّئ له هناك قصة ستغيّر حياته للأبد.
البدايات في الصحراء
في صباحٍ باكر، استقبله مدير المدرسة بابتسامة متعبة قائلاً:
"أهلاً بك يا أستاذ سامر، القرية بسيطة، لكن أهلها طيبون... ستتأقلم سريعًا."
في طريقه إلى السكن، رأى جمال الصحراء المذهل. الكثبان تمتد بلا نهاية، والجِمال تسير ببطء
في الأفق. شعر أنه في عالمٍ آخر، بعيدٍ عن ضجيج المدينة وزحامها.
في الأيام الأولى، بدأ يدرّس الأطفال بحماس. كان معظم التلاميذ من أبناء البدو الرحّل، ومن
بينهم فتاة في السادسة عشرة تُدعى ليان. كانت ذكية بشكلٍ لافت، تتحدث العربية الفصحى
بطلاقة وتحب القراءة رغم بساطة بيئتها.
نظرة غيّرت كل شيء
في أحد الأيام، حين تأخرت ليان عن الصف، وجدها سامر بعد الحصة واقفة تحت ظل شجرةٍ
قريبة من المدرسة، تمسك كتابًا بيديها المتعبتين. اقترب منها وسألها بلطف:
"لماذا تأخرتِ يا ليان؟"
ابتسمت بخجل وقالت:
"كنت أساعد أمي في جلب الماء من البئر... لكني لم أرد أن أفوّت درسك."
كانت كلماتها بسيطة، لكنها لامست شيئًا عميقًا في قلبه. منذ تلك اللحظة، بدأ يرى فيها شيئًا
مختلفًا... روحًا نقية تشبه الصحراء التي تحتضنها.
حب في الخفاء
مرت الأسابيع، وتحوّلت إعجابهما الصامت إلى صداقة بريئة. كانت ليان تسأله عن الشعر
والأدب، وكان يجيبها بحماس. في إحدى الأمسيات، جلسا عند حافة الوادي يتحدثان عن الحلم
والمستقبل.
قالت له بصوتٍ خافت:
"هل تظن يا أستاذ أن فتاة من البدو يمكن أن تغيّر مصيرها؟"
ابتسم سامر وقال:
"من يؤمن بحلمه، يستطيع أن يغيّر أي شيء."
كانت تلك اللحظة بداية حبٍّ صادق، لا يعترف بالطبقات ولا بالعادات.
الجدار بين العادات والعشق
لكن الأخبار لا تبقى سرًّا في القرى. بدأت الهمسات تدور بين الناس: "الأستاذ يحب بنت الشيخ
سالم!"
حين علم والد ليان بالأمر، ثار غضبًا. استدعى ابنته وصرخ في وجهها:
"هل فقدتِ عقلكِ؟ تريدين الزواج من رجلٍ حضريٍّ لا أصل له بيننا؟!"
حاولت ليان الدفاع عن مشاعرها، لكن التقاليد كانت أقوى من صوت القلب. مُنعت من الذهاب
إلى المدرسة، وحُبست في خيمتها أيامًا.
أما سامر، فحاول أن يشرح للشيخ سالم أنه يريد الزواج منها بالحلال، لكن الشيخ لم يقبل حتى
بلقائه. قال له أحد أقاربها بلهجةٍ صارمة:
"انسَ الأمر يا أستاذ، الفتاة من قومنا، ولن نزوّجها لغريب."
الرسالة الأخيرة
لم يجد سامر سوى الورق ليعبّر عن ما في داخله. كتب لها رسالة قال فيها:
"يا ليان، ربما لا يجمعنا الطريق، لكنكِ ستظلين في قلبي دائمًا. لقد علّمتِني أن الحب لا يعرف
مكانًا، وأن الجمال الحقيقي يسكن الأرواح الطيبة."
أعطاها الرسالة تلميذ صغير أوصلها سرًا. وحين قرأتها، بكت بصمت. في تلك الليلة، جلست
عند باب خيمتها تنظر إلى النجوم وتهمس:
"سأذكرك كلما مرّ النسيم على الكثبان يا سامر."
الرحيل المؤلم
لم يعد أمام سامر سوى المغادرة. طلب نقله إلى مدرسةٍ أخرى في مدينة قريبة. حين غادر
القرية، نظر من نافذة الحافلة إلى الأفق، فرأى ظلّ فتاة تقف على التلة، ترتدي ثوبًا أبيض،
ووشاحها يتمايل مع الريح.
هل كانت ليان؟ لا يعلم... لكنه شعر أن قلبه يُترك خلفه في تلك الصحراء الهادئة.
بعد سنوات
مرّت سبع سنوات. أصبح سامر مديرًا لإحدى المدارس الحديثة، وذاع صيته كأحد أفضل
المعلمين في المنطقة. وفي يومٍ من الأيام، تلقّى رسالة من منظمة تعليمية تُعنى بتعليم
البنات في القرى النائية، تُوقّع باسم:
"ليان سالم – رئيسة الجمعية التعليمية للبدو الرحّل."
تجمّد في مكانه، وعيناه تدمعان. فتحت الرسالة، فقرأ:
"أستاذي العزيز، كنتَ أول من علّمني أن لا أستسلم. غادرت القرية، درست، وعدتُ اليوم لأعلّم
بنات الصحراء كما علّمتني. شكراً لأنك كنت نوري حين كانت الدنيا ظلاماً."
ضحك سامر وهو يمسح دموعه. قال في نفسه:
"لقد ربحتُ رغم الخسارة... فالحب الحقيقي لا يموت، بل يتحوّل إلى نورٍ يهدي الآخرين."
في مساءٍ صيفيّ، جلس سامر على شرفة منزله يقرأ شعرًا عن الحب والحرية، بينما تهبّ نسمة
دافئة من الجنوب. رفع رأسه إلى السماء وقال:
"يا ليان... لو تعلمين كم كنتِ درسًا لي، ليس في الحب فقط، بل في معنى الإصرار والإيمان."
هكذا انتهت قصة الأستاذ الذي أحب فتاة من البدو، لكنها بدأت في قلوب القرّاء كرمزٍ لحبٍّ
يتجاوز المكان والزمان، حبٍّ يتحدى العادات والتقاليد، ويعلّمنا أن القلب لا يعرف سوى الصدق.

.png)
