انساك دا كلام

ArabStories
0

 






انت الساعة تقترب من منتصف الليل، والمدينة غارقة في صمتٍ غريب. وحدها أنوار الشارع

الخافتة كانت تشهد على رجلٍ يجلس على مقعدٍ خشبي في الحديقة المقابلة للمكتبة القديمة.

في يده كوب قهوة باردة، وفي عينيه حكاية لم تُكتب بعد... أو ربما كُتبت ثم تمزّقت أوراقها.


كان اسمه آدم، رجل في الثلاثين من عمره، هادئ الملامح، يحمل في صوته وجعًا يشبه

الموسيقى الحزينة. مرّت خمس سنوات منذ آخر مرة رأى فيها ليلى، ومع ذلك لم يمر يومٌ لم

يتذكر فيه تفاصيلها: ضحكتها، صوتها، وحتى تلك النظرة التي قالت له كل شيء حين افترقا.


كانت قصة حبهما من تلك القصص التي تبدأ بصدفةٍ وتنتهي بقدرٍ لا يرحم.

التقيا أول مرة في الجامعة، حين كانت ليلى تبحث عن كتابٍ في مكتبة الكلية. سقط الكتاب من

يدها، ومدّ هو يده ليلتقطه قبل أن يصل الأرض. كانت لحظة بسيطة، لكنها زرعت أول بذرة في

قلبٍ لم يعرف الحب من قبل.


منذ تلك اللحظة، تغيّر كل شيء. أصبح يختلق الأعذار ليمرّ بجانبها، يسألها عن المحاضرات، أو

يعرض مساعدتها في المشاريع الجامعية. ومع الوقت، بدأت هي أيضًا تنتظر تلك اللقاءات

الصغيرة، التي تتحول فيها الكلمات البسيطة إلى نبضاتٍ خجولة.



🌹 بداية العشق

في أحد الأيام، جلسا معًا في مقهى صغير قرب الجامعة. كان المطر يتساقط برفق، والهواء

محمّل برائحة القهوة والذكريات. قال لها آدم بصوتٍ مرتجف:


"ما كنتش متخيل إن في حد ممكن يخلي الدنيا كلها تبان بسيطة كده… إلا لما عرفتك يا ليلى."


ابتسمت، ولم تقل شيئًا. لكن عينيها قالت الكثير. ومن هناك، بدأت حكاية لم يكن لها شبيه.


أصبحا لا يفترقان، يدرسان سويًا، يتبادلان الكتب والرسائل القصيرة، ويعدان أحلامهما الصغيرة.

كانا يعتقدان أن الحب وحده كافٍ ليجعل الحياة أجمل، لكن الحياة كانت تخبئ لهما درسًا قاسيًا.



💔 الفراق الذي لم يُكتب له نهاية

بعد التخرج، تقدّم آدم لخطبة ليلى، لكن والدها رفض بشدة. قال إن الفارق بين العائلتين كبير،

وإن آدم لا يناسب مستوى ابنته. حاول أن يقنعه، توسّل، بكى… لكن الجواب كان واحدًا: "انسَ

الموضوع."


كانت ليلى بين نارين؛ قلبها الذي يريد آدم، وواجبها تجاه أسرتها التي ربتها على الطاعة. وفي ليلةٍ

لم يكن فيها القمر حاضرًا، أرسلت إليه رسالة قصيرة كتبت فيها:


"سامحني يا آدم… يمكن الحب مش دايم، لكن الذكرى هتفضل في قلبي طول العمر."


ومنذ تلك الليلة، اختفت. لا اتصال، لا عنوان، لا أثر.

آدم ظلّ يبحث عنها شهورًا، ثم سنوات. حتى استسلم في النهاية، لكنه لم ينسَ. كان يقول

دائمًا:


"انساك؟ دا كلام… دا حتى الهوى مابيقدرش ينسى أول نسمة حب."



⏳ مرور السنوات

مرت الأيام، وتغيّر كل شيء حوله إلا هو. أصبح يعمل ككاتبٍ في إحدى الصحف، يكتب قصص

الحب والفقد وكأنها تخرج من قلبه مباشرة. كل قصة يكتبها كانت وجهًا آخر من وجوه ليلى،

وكل كلمة كانت محاولة لكتابة النهاية التي لم يستطع أن يعيشها معها.


وذات مساء، تلقى دعوة لحضور توقيع كتابٍ في معرض الأدب المعاصر. لم يهتم في البداية،

لكنه قرر الذهاب على سبيل الفضول.

حين دخل القاعة، سمع صوتًا مألوفًا من بعيد، صوتًا أعاد له كل ما حاول نسيانه.

كانت هي... ليلى.



💫 اللقاء بعد الغياب

وقفت أمام منصة صغيرة تتحدث عن روايتها الجديدة، بعنوان "حين يعود الغياب".

تكلّمت بثقة، لكنها لم ترفع نظرها عن الأوراق. وحين انتهت، صعد هو إليها بخطواتٍ مترددة،

وقال بابتسامةٍ باهتة:


"حتى الغياب رجع، بس متأخر شوية."


تجمّدت للحظة، ثم رفعت رأسها، والدموع امتلأت بعينيها.


"آدم…؟!"

"أيوه، أنا اللي كنت مستني كلمة منك خمس سنين."


لم يكن هناك كلامٌ يكفي. جلسا سويًا في زاويةٍ بعيدة، يتحدثان كأن العمر لم يمضِ. أخبرته أنها

سافرت بعد رفض والدها، وأنها حاولت أن تبني حياة جديدة لكنها فشلت في نسيانه. قالت له:


"كنت فاكرة النسيان سهل… بس كنت غلطانة. انساك؟ دا كلام فعلاً."


ضحك، تلك الضحكة التي نسيها منذ زمن، وقال:


"لسه فينا نبض، ولسه فينا وجع، بس يمكن الوجع دا اللي خلّى الحب يعيش."



🌧️ الحقيقة المرة

لكن الحياة لم تكن بتلك السهولة. كانت ليلى متزوجة الآن، زواجًا لم تختره، لكنه فرض عليها.

ورغم أنها لم تنجب أطفالًا، إلا أنها لم تستطع الانفصال خوفًا من عائلتها.

قالت له بصوتٍ مكسور:


"أنا مش حرة يا آدم، بس وجودك النهارده رجّعلي نفسي اللي كانت ماتت."


ابتسم بحزن وقال:


"مش مهم نكون سوا، المهم نفضل لبعض حتى في البعد."


ثم غادر المكان تاركًا خلفه قلبين لم يعرفا كيف يلتقيان في زمنٍ واحد.

منذ ذلك اليوم، كتب آدم قصة جديدة بعنوان "انساك دا كلام"، حكاية تشبهه وتشبهها، لكنها

هذه المرة لم تنتهِ بالفراق، بل بالأمل.



✨ النهاية التي لا تموت

بعد عامين، انتشر كتابه وأصبح من أكثر القصص المقروءة على الإنترنت. في إحدى المقابلات

التلفزيونية، سأله المذيع:


"هل قصة انساك دا كلام حقيقية؟"

فابتسم وقال:

"هي حقيقية… بس النهاية دي المرة أنا اللي اخترتها."


وحين خرج من الأستوديو، وجد رسالة صغيرة في سيارته، كُتب فيها بخطٍ يعرفه جيدًا:


"كل مرة أقرا القصة، بحس إنك بتحكي عني. ومهما فات العمر… انساك دا كلام."


رفع رأسه نحو السماء، وقال بهدوء:


"ولسه بدعي ربنا يجمعني بيها في زمنٍ تاني، يمكن يكون لنا فيه نصيب."


وانتهت القصة، لكن صدى كلماتها ظلّ يتردّد في قلب كل من قرأها، لأن من ذاق طعم الحب

الحقيقي يعلم أن بعض الفراق لا يعني النسيان، بل بداية حبٍ لا يموت.



إرسال تعليق

0 تعليقات
إرسال تعليق (0)