كان الصباح هادئًا على غير العادة حين فتح سامي عينيه ببطء. لم يكن يتذكر كيف نام البارحة، ولا
أين كان بالتحديد. كل ما شعر به في اللحظات الأولى هو ثقل غريب على صدره، وكأن الهواء من
حوله مختلف… أثقل، وأبطأ.
نهض بتردد وهو يرمش سريعًا، ليجد نفسه ممددًا على مقعدٍ طويل وسط ساحة مدينة
واسعة. كانت الشمس مشرقة، والسماء صافية، والنسيم عليلًا… كل شيء يبدو طبيعيًا، لكنه
شعر بأن هناك شيئًا خاطئًا—شيئًا كبيرًا.
وقف سامي ببطء، نظر حوله، ولمح المباني الشاهقة تمتد على طول البصر: متاجر، فنادق،
عمارات سكنية، محلات مقفلة، وأرصفة نظيفة تتلألأ تحت الضوء. لكنها كانت فارغة تمامًا.
لا أحد.
لا سيارات، لا أصوات محركات، لا ضحكات، لا خطى، لا أطفال يلعبون، لا شيء…
مدينة كاملة دون أي أثر للحياة.
مرت قشعريرة باردة على ظهره وهو يتمتم لنفسه:
"أين الناس؟ هل هي مزحة؟ هل أصوّر في برنامج كاميرا خفية؟"
لكن الإجابة لم تأتِ.
تقدم بحذر نحو الشارع الرئيسي. كان يسمع صدى خطواته يرتدّ من جدران البنايات المرتفعة،
وكأن الصوت يسخر من وحدته. توقف أمام مقهى صغير بدا وكأن زبائنه غادروه منذ لحظات:
أكواب نصف ممتلئة على الطاولات، جهاز قهوة لا يزال ساخنًا، وجرائد مفتوحة على صفحات
السياسة.
مدّ يده ليلمس أحد الكراسي، ليتأكد أنه ليس في حلم. كان الكرسي حقيقيًا… لكنه بارد.
بارد جدًا، كأن لا أحد جلس عليه منذ سنوات، رغم أن المكان يدل على أن شخصًا ما كان هنا قبل
دقائق.
تجول في المكان، ينظر في كل زاوية، وفي كل شارع فرعي. كانت المدينة تبدو مأهولة… لكنها
أيضًا تبدو مهجورة بالكامل، وكأن سكانها اختفوا فجأة في نفس اللحظة، وتركوها كما هي.
ضغط سامي على صدغيه وهو يحاول تذكر أي شيء من الليلة الماضية، لكن ذاكرته كانت
ضبابية. آخر ما يتذكره بوضوح هو خروجه من عمله متجهًا إلى منزله… ثم ظلامٌ دامس.
أعاد النظر حوله.
"هل هذا حلم طويل؟ هل فقدت عقلي؟"
لكن كل شيء كان حقيقيًا بطريقة مزعجة.
دخل إلى مركز تجاري واسع كانت أبوابه مفتوحة. المصاعد تعمل، الموسيقى الهادئة في الخلفية
لا تزال تُبث، الشاشات تعرض إعلانات متكررة، المتاجر مضاءة، والرفوف ممتلئة بالبضائع.
لكن المُجمع كان خاليًا من البشر.
كان المكان كبيرًا إلى درجة أن صدى أنفاسه يتردد داخل الردهات.
اقترب من أحد المتاجر ونادى بصوت عالٍ:
"هل من أحد هنا؟!"
لم يجب أحد.
أخرج هاتفه محاولًا الاتصال بأي شخص… ولكن الشبكة اختفت تمامًا. لا شبكة، لا إنترنت، لا
تغطية.
أعاد تشغيل الهاتف، لكن دون جدوى.
جلس على أحد المقاعد في المجمع، واضعًا رأسه بين يديه، يحاول فهم أي شيء من هذا
الغموض العجيب. بدأ يشعر بخوفٍ شديد. ليس خوفًا من شيء محدد… بل خوف من الفراغ،
من الصمت، من العزلة التي لا تفسير لها.
مرت دقائق أو ساعات… لم يعد يعرف. الوقت فقد معناه.
قرر البحث عن دليل. اتجه نحو مركز الشرطة. كان الباب مفتوحًا، والأنوار مضاءة، والملفات على
الطاولات، وأجهزة الحاسب تعمل… لكن لا أحد هناك.
دخل إلى غرفة المراقبة ليجد عشرات الشاشات تنقل صورًا مباشرة لشوارع المدينة. كانت
الكاميرات تعمل بكفاءة، وتعرض كل زاوية… وكلها تخلو من البشر تمامًا.
ضغط زر إعادة التشغيل، ثم زر التكبير، ثم حاول تغيير القنوات… لا شيء.
مدينة بلا بشر.
جلس أمام الشاشات وهو يراقبها بدقة، محاولًا إيجاد حركة، ظلاً، شخصًا… أي شيء. لكن
الشاشات ظلت صامتة مثل المدينة نفسها.
وفجأة… لاحظ شيئًا غريبًا.
على الشاشة رقم 12 التي تنقل صورة من شارع جانبي… كان هناك شيء يتحرك.
تجمدت أنفاسه.
اقترب من الشاشة أكثر.
ظهر شخص… لا، ليس شخصًا… ظلّ يمتد على الأرض، وكأنه يتشكل من العدم. لم يستطع
سامي تحديد ملامحه، لكنه بدا كهيئة بشرية تتحرك ببطء، وكأنها تبحث عن شيء.
ثم… نظر الظل مباشرة نحو الكاميرا.
تراجع سامي خطوة إلى الوراء.
"ماذا كان ذاك؟"
لكن قبل أن يتمكن من التفكير، بدأت الشاشات الأخرى تُظهر نفس الظلّ… لكنه يظهر في
أماكن مختلفة في نفس اللحظة. مرة في حديقة، مرة في موقف سيارات، مرة داخل متجر… كأن
الظل موجود في كل مكان.
وفجأة… توقفت جميع الشاشات. انطفأت.
وعمّ الظلام.
تراجع سامي مذعورًا.
وبينما كان يحاول تشغيل جهاز المراقبة، سمع صوت خطوات.
خطوات بطيئة… ثقيلة… قادمة من داخل المركز.
نظر ببطء إلى الممر الطويل خلفه.
لم يرَ أحدًا، لكن الخطوات كانت تقترب.
خطوة…
ثم أخرى…
ثم توقفت فجأة.
اختفى الصوت كما ظهر.
هرب سامي من المبنى وهو يلهث، يركض في الشارع الخالي كمن يهرب من شيء لا يعرف
ماهيته. كان قلبه يخبط في صدره بقوة، وأنفاسه تتلاحق.
بعد دقائق من الركض، لاحظ سامي شيئًا صادمًا:
الشمس لم تتحرك من مكانها.
وكأن الزمن تجمد.
نظر إلى الساعة المثبتة على أحد المباني… كانت عقاربها عالقة عند نفس الدقيقة منذ أن بدأ
يومه.
لم ينتبه لذلك سابقًا.
تقدم نحو ساحة أخرى، وهناك رأى شيئًا أكثر غرابة:
عصفور كان يحلّق… لكنه لم يتحرك. كان ثابتًا في الهواء، جناحاه مفتوحان، وكأنه صورة معلقة.
لم يعد سامي قادرًا على التفكير. هذه المدينة ليست حقيقية… أو ليست طبيعية. هذه ليست
مجرد مدينة مهجورة… إنها مدينة متجمدة خارج الزمن.
صرخ بأعلى صوته:
"أين أنا؟! ماذا يحدث هنا؟!"
لكن الصدى كان الوحيد الذي ردّ عليه.
قرر التوجه نحو أطراف المدينة. ربما سيجد مخرجًا أو حدودًا… ربما سيجد أحدًا يفسر له ما يحدث.
سار لساعات—أو هكذا ظن—إلى أن وصل إلى الطريق السريع. السيارات متوقفة وكأنها تُركت
فجأة، أبواب بعضها مفتوحة، المحركات تعمل ولكن بلا حرارة… وكأن الزمن توقف قبل أن
يكتمل احتراق الوقود.
بين السيارات، وجد خريطة صغيرة. كانت تحمل شعار المدينة:
"مدينة النور – مستقبل بلا نهاية"
قرأ العبارة عدة مرات.
مستقبل بلا نهاية؟
هل المقصود أن الزمن لا يمضي هنا؟
في تلك اللحظة سمع الصوت مرة أخرى.
الخطوات.
لكن هذه المرة… كانت أقرب.
التفت ببطء ووجد الظلّ يقف بين السيارات.
لم يكن له وجه، ولا ملامح… فقط كتلة سوداء على هيئة بشرية.
تجمد سامي في مكانه.
الظل لم يتحرك.
كانا ينظران إلى بعضهما—أو هكذا شعر سامي—لسنوات في لحظات قصيرة.
ثم قال الظل بصوت لا يُشبه صوت البشر:
"أنت… لست من هنا."
تراجع سامي وهو يصرخ:
"من أنت؟! ماذا تريد؟! أين الناس؟!"
رد الصوت وكأنه يأتي من أعماق الأرض:
"الناس… خرجوا من الزمن. بقيت أنت… لأنك اخترت أن تستيقظ."
"ماذا؟ اخترت؟ متى؟ كيف؟!"
لكن الظل لم يجب.
بدأ يقترب ببطء… ببطء شديد، وكأن كل خطوة تحتاج إلى دقيقة كاملة.
ركض سامي بكل قوته مبتعدًا عن الظلّ، لكنه كان يشعر بأن المسافة لا تتغير، وكأن الشوارع
تطول، والمباني تتحرك، والمدينة كلها تتنفس خلفه.
ركض حتى وصل إلى أطول برج في المدينة. دخل إليه بحثًا عن مكان آمن. صعد السلالم بسرعة،
وصل للطابق الأخير، وفتح الباب المؤدي للسطح.
وهناك… رأى المشهد الذي غيّر كل شيء.
المدينة تحت قدميه لم تكن حقيقية بالكامل. كانت كلما نظر نحو الأطراف تتلاشى إلى ضباب…
ثم تعود للظهور… ثم تتلاشى مرة أخرى، وكأنها تُعاد تشكيلها باستمرار.
وكأنها مدينة مصنوعة… لا مدينة حقيقية.
سقط سامي على ركبتيه، عاجزًا عن الفهم.
وفجأة… ظهر الظل خلفه، لا يبعد سوى خطوات.
قال بصوت منخفض:
"أنت استيقظت في المكان الخطأ."
استدار سامي مذعورًا، لكن قبل أن يصرخ…
اختفى كل شيء.
المدينة… الظل… المباني… الصوت… الضوء… كل شيء تحول إلى سواد.
ثم سمع همسًا أخيرًا:
"لا تستيقظ هنا مرة أخرى…"
فتح سامي عينيه فجأة… فوجد نفسه في سريره.
كان جسده مبللًا بالعرق، وأنفاسه متلاحقة.
نظر حوله… كل شيء طبيعي. منزله، الساعة، الهاتف، ضوء الصباح الحقيقي.
حاول إقناع نفسه أنها مجرد حلم غريب.
لكن حين نهض ليتوجه إلى الباب… لاحظ شيئًا صغيرًا على طاولته.
كانت الخريطة نفسها التي وجدها في المدينة…
وعليها عبارة:
"مدينة النور – مستقبل بلا نهاية"
وبجانبها توقيع صغير… بلون أسود:
"الظل"

.png)
