في زمنٍ بعيدٍ من أزمان الأنبياء، عاش رجلٌ صالحٌ يُدعى أيوب عليه السلام، كان من نسل إبراهيم
الخليل، وقد ورث عن آبائه الإيمان العميق بالله، وحبّ الخير، والرحمة بالناس. كان أيوب مثالاً في
الأخلاق والتقوى، محبًّا للفقير، عطوفًا على المريض، رحيمًا بالضعفاء. أنعم الله عليه بنعم
كثيرة؛ فقد رزقه أرضًا واسعة، ومالًا وفيرًا، وأنعامًا كثيرة، وأولادًا صالحين يملؤون حياته سعادة
وبهجة.
لكن الله تعالى أراد أن يختبر صبره وثباته على الإيمان، كما يختبر المعادن النفيسة بالنار لتظهر
جودتها، فبدأت رحلة الابتلاء العظيم التي ستخلّد اسم أيوب عليه السلام في التاريخ رمزًا للصبر
والرضا.
💠 بداية البلاء
بدأ البلاء خفيفًا ثم اشتدّ شيئًا فشيئًا. فقد أيوب ماله أولًا، فاحترقت مزارعه ونفقت أنعامه، ثم
فُجع بفقدان أولاده الواحد تلو الآخر في حادثٍ مؤلم. ومع ذلك، لم يتذمّر ولم ييأس، بل كان يردّد:
"الحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ، هو أرحم الراحمين."
ثم أصابه الله بمرضٍ شديدٍ في جسده، امتدّت جراحه حتى صار لا يستطيع الحركة إلا قليلًا. ابتعد
عنه الناس خوفًا من العدوى، إلا زوجته الصالحة التي بقيت إلى جواره ترعاه بحبٍّ وصبرٍ وإيمان.
كانت تغسل جراحه، وتقدّم له الماء والطعام رغم الفقر والتعب، وتبكي خفيةً حين تراه يتألم
لكنها لا تشتكي.
🌿 الزوجة الصالحة.. رمز الوفاء
كانت زوجة أيوب عليه السلام مثالًا في الوفاء، فقد تركت النعيم الذي كانت تعيش فيه، لتخدم
زوجها في مرضه الطويل. كانت تخرج لتعمل عند الناس مقابل لقيمات تسدّ بها جوعهما. ومع
ذلك، كانت تُذكّره دائمًا برحمة الله وتقول له:
"يا نبي الله، لعلّ الله يُفرّج عنا قريبًا، فاصبر، فإن الله لا ينسى عباده الصالحين."
ابتسم أيوب رغم الألم، وقال لها بصوتٍ متهدّج:
"لقد أنعم الله عليّ بسبعين عامًا من الصحة والرخاء، أفلا أصبر بضع سنين على البلاء؟ إن ربي
كريم."
🌩️ قسوة الاختبار
امتد البلاء سنين طويلة، يقال إنها بلغت ثمانية عشر عامًا، حتى صار جسده نحيلًا وضعيفًا لا
يقوى على شيء. تركه الناس جميعًا، حتى أقرباؤه، وظنّ البعض أن الله قد غضب عليه. لكن
أيوب عليه السلام كان يعلم أن الله لا يبتلي عباده إلا لحكمة، فكان يقول في دعائه:
"اللهم إنّي لا أشكو إليك ما مسّني من ضرّ، ولكنّي أسألك رحمتك."
لم يكن دعاؤه تذمّرًا، بل كان رجاءً في رحمة الله. لم يفقد إيمانه لحظة واحدة، وكان قلبه عامرًا
بالحب واليقين. كان يرى في كل ألمٍ درسًا وفي كل جرحٍ إشارة إلى لطف الله الخفي.
🌅 لحظة الرجاء والدعاء
في إحدى الليالي، وقد بلغ به المرض أشدّه، رفع يديه إلى السماء وهو يقول بخشوعٍ عظيم:
"رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ."
(سورة الأنبياء، آية 83)
فما إن انتهى من دعائه حتى استجاب له ربّه الذي لا يردّ من دعاه بصدق. نادى الله عز وجل عبده
أيوب، وأمره أن يضرب الأرض برجله، فقال تعالى:
"ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ."
(سورة ص، آية 42)
💧 معجزة الشفاء
ضرب أيوب الأرض برجله، فانبجست عين ماءٍ صافيةٍ باردة، فاغتسل بها، وشرب منها، فبرأ
جسده بإذن الله، وعاد إليه شبابه وعافيته، وكأنّه لم يُصب بسوءٍ قط. عاد وجهه مشرقًا،
وصوته قويًا، وقلبه ممتلئًا بالشكر.
رجعت إليه زوجته، فلم تعرفه في البداية من شدّة ما تغيّر شكله، فقال لها مبتسمًا:
"أنا أيوب، قد شفاني الله برحمته."
سجدت لله شاكرة، وبكت فرحًا، وحمدت الله الذي جمع بينهما بعد طول المعاناة.
🌾 عودة النعمة والبركة
لم يتوقّف فضل الله عند الشفاء، بل أعاده إلى مكانته القديمة وزاده من فضله. ردّ الله عليه
ماله وأهله، بل وأعطاه ضعف ما فقده، كما قال تعالى:
"فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ."
(سورة الأنبياء، آية 84)
عاش أيوب بعدها في نعيمٍ واطمئنان، يُذكّر الناس دومًا بفضل الله ورحمته، ويحكي لهم كيف أن
الصبر كان مفتاح الفرج. صار مثالًا يُحتذى به لكل من يمرّ بابتلاء.
🌙 دروس من قصة أيوب عليه السلام
الصبر مفتاح الفرج: مهما طال البلاء، فإن الفرج آتٍ لا محالة لمن يصبر ويحتسب.
الإيمان لا يزول بالابتلاء: فالله يختبر عباده ليطهّر قلوبهم ويزيدهم قربًا منه.
الرحمة الزوجية والوفاء: تظهر في وقت الشدّة، وزوجة أيوب كانت مثالًا نادرًا للوفاء.
اللجوء إلى الله بالدعاء: فدعاء أيوب لم يكن صراخًا من الألم، بل مناجاة من القلب الموقن بقدرة
الله.
البلاء ليس غضبًا من الله: بل قد يكون رفعة في الدرجات وتكفيرًا للذنوب.
🌺 العبرة الخالدة
إن قصة أيوب عليه السلام ليست مجرد حكاية نبيٍّ ابتُلي وشفاه الله، بل هي مدرسة في الإيمان
والصبر. تُعلّمنا كيف نحمد الله في السراء والضراء، وكيف نثق بلطفه حتى ونحن في قلب
العاصفة. فالله لا ينسى عباده الصابرين، ولا يتركهم دون رحمة.
قال تعالى في ختام قصته:
"رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ."
وهكذا أصبح اسم أيوب عليه السلام رمزًا خالداً للصبر الجميل، يُضرب به المثل في كل زمانٍ
ومكان.
🕯️ الخاتمة
قصة أيوب عليه السلام تبقى منارة أملٍ لكل من يعاني من البلاء، تعلمنا أن المرض والفقر
والخسارة ليست نهاية الطريق، بل بداية لعهدٍ جديدٍ من القرب من الله.
فمن يصبر اليوم، يفرح غدًا، ومن يحتسب، يراه الله بعين رحمته، كما رأى عبده أيوب.
فسبحان من قال:
"إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ."

.png)
