في أرضٍ بعيدة، كانت قرية مَدْين تنتشر على سفوح الجبال، تعج بأسواقها وأزقتها الضيقة،
حيث كان الناس يُطفّفون المكيال والميزان، يزيدون في الكيل إن اشتروا شيئًا، وينقصون إن
باعوا. كانت الأصنام تزين بيوتهم، ويتخذونها وسطاء بين أنفسهم وبين الله، ويعيشون حياتهم
في الجشع والغش، دون وعي بخطر الأعمال المحرمة.
في هذه القرية، أرسل الله شُعيب عليه السلام، رجلاً حكيمًا وصادقًا، داعيًا للحق، ينذر أهل مَدْين
من عبادة الأصنام والغش في المكيال والميزان، ويدعوهم لعبادة الله وحده، متوعدًا من
يعصيه بعقابٍ أليم.
بدأ شُعيب دعوته بصوتٍ هادئ لكنه حازم، يتردد في الأسواق ويخاطب التجار والحرفيين:
"يا قوم، اعبدوا الله وحده، ولا تُشركوا به شيئًا. وأوفوا الكيل والميزان حقهما، ولا تنقصوا الناس
من أموالهم."
لكن أهل مَدْين لم يكونوا مستعدين لتغيير سلوكهم. بعضهم استكبر عن دعوة شُعيب، وظنّوا
أنه يجرؤ على التدخل في حياتهم لمجرد أنه رجل صالح. كانوا يتحدثون في الأسواق ويخططون
لإيقاعه في الخطأ، متهمينه بالسحر والكذب، قائلين: "هذا الرجل يجرؤ على التشكيك في تقاليدنا
وأصنامنا. لن نسمع له كلامًا."
ومع ذلك، لم ييأس شُعيب. فقد كان يعلم أن بعض القلوب ستلين، وأن الهداية لا تأتي إلا
بالصبر والموعظة الحسنة. فتابع دعوته متجولًا بين البيوت والأسواق، يوضح لهم معنى العدل
في الميزان، ويشرح لهم خطورة الغش والتطفيف، ويذّكرهم بعذاب الله الذي ينتظر المكذبين.
وبينما تفرّق الناس بين مؤمنٍ ومستكبر، آمن بعضهم بدعوة شُعيب، وأصبحوا يُظهرون العدل
في تجارتهم، ويعتنون بعبادة الله وحده. كانوا يتجمعون حوله في جلسات مسائية، يسمعون
منه قصص الأنبياء السابقين، ويتعلمون كيف يعيشون حياة طيبة.
لكن غالبية قوم مَدْين رفضوا التغيير، وأصروا على الغش والتطفيف، ولم يرضوا بالعدل أو
بالتقوى. لقد أصبحوا مجتمعًا منقسمًا، بين من يستجيب للحق ومن يصر على الضلال، ولم
يكن في نواياهم سوى مواصلة فسادهم.
لم يقتصر فسادهم على مَدْين وحدها، بل امتد إلى الأيكة، قرية أخرى تشابه مَدْين في العادات
السيئة. لما سمع شُعيب بذلك، اتجه إليها داعيًا أهلها لعبادة الله، وتحذيرهم من نفس
المصير الذي قد ينتظرهم. لكنهم كذلك استكبروا وأصرّوا على الشرك والغش، ولم يستجيبوا
لأي دعوة.
بعد طول صبرٍ وحوار، عاد شُعيب إلى مَدْين، وقد اصطفّ مؤمنوه حوله، وهم يشكرون الله على
نعمة الهداية. لكن الأوقات لم تدم على حالها، فقد جاء أمر الله، وأصابت قوم مَدْين رجفة
مدمرة، هزّت البيوت والشوارع، حتى أصبحوا جاثمين في دارهم، لا حول لهم ولا قوة.
وعلى غرارهم، نزلت العقوبة على الأيكة أيضًا، فخسفت الأرض أهلها بسبب إصرارهم على
الطغيان والغش، ولم ينجُ إلا من آمن بالله واتقى أمره.
وقد ذكرت الآيات القرآنية هذا الحدث العظيم، حيث قال الله تعالى:
"وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ"*.
وعن الأيكة، قال الله تعالى:
"كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُونِ."*
القصة تحمل عبرة عظيمة لكل الأجيال: العدالة في البيع والشراء، الصدق في التعامل، وعبادة
الله وحده دون شريك. كما تبرز العواقب الوخيمة للغش والظلم والعناد أمام الحق.
وقد بقي ذكر شُعيب عليه السلام، ودعوته العادلة، مثالًا يُحتذى به للأمة على مر العصور، مذكّرًا
كل إنسان بأن الله يراقب أعماله، وأن الفساد في الأرض لا يذهب بلا عقاب، وأن الهداية متاحة
لكل من يريد قلبه لله الحق.
حتى اليوم، يستفيد العلماء والدعاة من هذه القصة في تعليم الناس عن أهمية الصدق،
والعدل، وتحذيرهم من الطغيان والتطفيف في المكيال والميزان، مؤكدين أن الهداية لا تتأتى إلا
بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، وأن الله رحيم ولكن عقابه شديد لمن يكذب رسله ويصر على
الضلال.


