في أرض كنعان القديمة، وُلد طفل جميل الوجه، يفيض نورًا وحياءً، اسمه يوسف بن يعقوب
عليهما السلام. كان يوسف أحب أبناء يعقوب إلى قلبه، فملأت محبّته قلوب إخوته غيرةً وحقدًا
دفينًا. لم يكن يوسف طفلًا عاديًا، فقد كان يرى في منامه رؤى غريبة تشي بمستقبل عظيم.
ذات ليلة، ركض يوسف نحو أبيه وقال:
"يا أبتِ، إنّي رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين."
ابتسم يعقوب عليه السلام، وقد أدرك أن ابنه يحمل قدرًا خاصًا، لكنه خاف عليه من حسد إخوته،
فقال له بلطف:
"يا بُني، لا تَقْصُص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا، إن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين."
لكن الغيرة نار تأكل القلوب، فاشتعلت صدور الإخوة حسدًا وحقدًا. تشاوروا سرًا وقالوا:
"اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا بعده قومًا صالحين."
غير أن أحدهم رقّ قلبه وقال:
"لا تقتلوا يوسف، ولكن ألقوه في غيابة الجب، يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين."
وفي ليلة مظلمة، أخذوا يوسف بحيلة اللعب، وطرحوه في البئر، ثم عادوا إلى أبيهم يبكون، وقد
لطّخوا قميصه بدمٍ كذبٍ وقالوا:
"يا أبانا، إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب."
لكن يعقوب، وقد ألهمه الله الصبر، قال بحزنٍ عميق:
"بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا، فصبرٌ جميل، والله المستعان على ما تصفون."
مرت الأيام، ومرت قافلة من التجار بالبئر، فأرسلوا واردهم ليستقي الماء، ففوجئ بالغلام الجميل
في قعره، فهتف:
"يا بشرى، هذا غلام!"
فباعوه في سوق مصر بثمن بخس دراهم معدودة، وكان من الذين اشتروه عزيز مصر، رجل له
مكانة وسلطان. قال العزيز لزوجته زليخا:
"أكرمي مثواه، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا."
كبر يوسف في بيت العزيز، وازداد جمالًا وذكاءً وحكمة. غير أن فتنة كبرى كانت تنتظره، فقد
تعلّقت به زليخا حبًا، وحاولت إغواءه، لكنه أبى وقال:
"معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون."
ولمّا رأته مصر كلّها متّهمًا، أرادت زليخا أن تثبت براءتها، فجمعت نسوة المدينة وأعطتهن
سكاكين وطلبت منه أن يخرج عليهن. فلما رأينه، قلن في دهشة:
"حاش لله، ما هذا بشرًا، إن هذا إلا ملك كريم!"
ورغم براءته، ألقي يوسف في السجن ظلمًا. وهناك بدأ فصل جديد من حياته. لم يفقد الأمل ولا
الإيمان، بل صار ينشر الخير حتى بين السجناء.
وذات يوم دخل معه السجن فتيان، فقال لهما يوسف:
"لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما، ذلكما مما علّمني ربي."
فسّرهما له، وأخبر أحدهما أنه سيعود ليكون ساقي الملك، وقال له:
"اذكرني عند ربك."
لكن الفتى نسي، وبقي يوسف في السجن بضع سنين.
حتى جاء اليوم الذي رأى فيه ملك مصر حلمًا عجيبًا:
"سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات."
احتار الكهنة والعرافون، حتى تذكّر الساقي يوسف فقال:
"أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون."
فدخل السجن وقال ليوسف:
"أيها الصديق، أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف..."
ففسّر يوسف الرؤيا بحكمة:
"تزرعون سبع سنين دأبًا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلًا مما تأكلون، ثم يأتي من بعد
ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن، ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه
يعصرون."
انبهر الملك بعقله وحكمته، وأمر بإطلاق سراحه. لكن يوسف أبى أن يخرج حتى تُظهر براءته.
وبعد أن اعترفت زليخا بقولها:
"الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين."
خرج يوسف مكرمًا، وأصبح وزيرًا على خزائن مصر، يُدبّر شؤونها بحكمة وعدل.
مرت السنين وجاءت المجاعة التي عمّت البلاد، فجاء إخوة يوسف من كنعان يطلبون الميرة،
ولم يعرفوه، لكنه عرفهم. أعطاهم الطعام، واحتال عليهم ليعودوا بأخيه بنيامين.
ولما جاءوا به، دبر يوسف أمرًا ليحتفظ بأخيه عنده، فوضع صواع الملك في رحله، ثم أعلن
المنادي:
"أيها العير، إنكم لسارقون!"
وبعد أحداث مؤثرة، كشف يوسف الحقيقة أمامهم قائلًا:
"هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟"
فقالوا بخجل ودهشة:
"أئنك لأنت يوسف؟!"
قال:
"أنا يوسف وهذا أخي، قد منّ الله علينا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين."
ثم أرسل قميصه إلى أبيه يعقوب، الذي فقد بصره من الحزن، فلما أُلقي القميص على وجهه،
عاد إليه بصره.
"قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون."
اجتمع شمل العائلة في مصر، وسجد الإخوة وأبوه له تحيةً وتعظيمًا، عندها أدرك يوسف أن
رؤياه قد تحققت.
"يا أبتِ، هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقًا، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء
بكم من البدو، من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي. إن ربي لطيف لما يشاء."
هكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام، قصة مليئة بالعِبر:
الصبر على البلاء، العفة أمام الفتنة، العدل عند التمكين، والعفو عند المقدرة.
قصة تُعلمنا أن طريق النور يمرّ عبر الظلام، وأن من توكل على الله جعل له مخرجًا.


