في قديم الزمان، كانت هناك مملكة واسعة تحيط بها الغابات الكثيفة، تُعرف بوفرة صيدها
وجمال طبيعتها. عاش فيها ملك قوي يُدعى ألديران، اشتهر بشغفه بالصيد أكثر من أي شيء
آخر في الدنيا. كان يرى في الصيد مجده وفخره، وكان كل صباح يخرج مع حاشيته إلى الغابة،
يحمل قوسه الذهبي وسهامه المرصعة بالأحجار الكريمة، يطارد الغزلان والطيور وحتى
المخلوقات النادرة التي لم يرها أحد من قبل.
ومع مرور السنوات، عمّ الخوف بين الحيوانات، فصارت الغابة ساكنة كأنها ميتة، لا يُسمع فيها
سوى وقع أقدام الملك وصوت سهامه. لم يكن يدرك أنه بفعله هذا كان يقتل الحياة نفسها
في مملكته.
في قلب تلك الغابة، كانت تعيش الساحرة الخضراء، حارسة الطبيعة وسيدة الغابة، التي تنبت
الأزهار حيث تمرّ، وتهمس للرياح أن تهدأ حين يغضب البحر. رأت ما يصنعه الملك، فامتلأ قلبها
بالحزن. كانت تعرف أن توازن العالم في خطر، وأن الغابة تموت ببطء.
قالت وهي تحدّق في أشجارها الذابلة:
"يا ملك الصيد، قتلتَ أكثر مما أنقذت. لو تعلم كم من الأرواح تُزهق كل يوم من أجل متعتك
العابرة!"
قررت أن تضع حدًا له. في ليلةٍ غامضة، حين كان القمر بدراً يسكب نوره الفضي فوق المروج،
خرجت الساحرة الخضراء من خيمتها المصنوعة من أوراق اللبلاب، وأعدّت تعويذة قوية لتسحر
قلب الملك، لعلها تردّه عن طغيانه. لكن حين واجهته، وجدت أن عينيه كانتا مملوءتين بالحيرة
لا بالقسوة. رفع قوسه نحوها، لكنها لم تتحرك. حاولت أن تُلقي السحر، غير أن قوتها خذلتها.
بدا كأن الغابة نفسها ترفض أن تُؤذيه، كأن القدر أراد لها أن تسلك طريقًا آخر.
انطفأ بريقها، وسقطت على الأرض متعبة. لم تفهم ما جرى. لوهلةٍ، ظنت أن السحر مات فيها،
أو أن قلبها بدأ يلين. في تلك اللحظة، قررت أن تترك سحرها وراءها، وأن تختبر طريقًا مختلفًا.
وفي اليوم التالي، ظهرت عند بوابات القصر بثيابٍ بسيطة، تطلب عملاً متواضعًا.
استغرب الحراس، لكنهم سمحوا لها بالدخول بعد أن قالت إنها طاهية تبحث عن رزق. لم
يتعرف أحد على هويتها، حتى الملك نفسه، الذي مرّ بجانبها ولم يلتفت. وهكذا أصبحت الساحرة
الخضراء خادمة مطبخٍ في قصر من كانت تنوي أن تسحره.
كانت الأيام تمرّ ببطء، لكنها رأت ما لم تره من قبل:
رأت إنسانًا، لا ملكًا.
كان ألديران، رغم قسوته السابقة، يحمل في داخله شيئًا من الطيبة. لم يكن مغرورًا مع خدمه،
بل كان يُلقي التحية أحيانًا على الطباخين، ويساعد في تقطيع اللحم إن احتاجوا. شيئًا فشيئًا،
بدأت الساحرة تلاحظ تغيرًا طفيفًا فيه، كأن الغابة بدأت تُزهر في قلبه من جديد.
وذات صباح، بينما كانت تُعد الحساء، دخل الملك المطبخ فجأة، وابتسم قائلاً:
"أشمّ رائحة لم أعرفها من قبل. ماذا تطبخين يا خضراء العينين؟"
ارتبكت، لكنها ردّت بابتسامة خفيفة:
"حساء الغابة يا مولاي، مصنوع من أعشاب تنمو فقط حين تنسى الريح طريقها."
ضحك الملك من عبارتها، وجلس بجانبها يتأمل البخار المتصاعد من القدر.
منذ ذلك اليوم، صار يزور المطبخ بين الحين والآخر، يسألها عن وصفاتها، يساعدها في تنظيف
الأعشاب أو تقليب الطعام. لم يعرف أنه يساعد تلك التي حاولت يومًا أن تسحره.
مع كل يوم، كان شعور غريب ينمو في قلبه. كان يجد راحة لا يعرف سببها حين يتحدث إليها.
أحسّ أن شيئًا فيه يتبدل — أنه لم يعد بحاجة إلى الصيد ليشعر بالقوة أو السيطرة.
مرت الشهور، والغابة خارج القصر بدأت تتعافى من جديد دون أن يفهم أحد السبب. الطيور
عادت تغني، والغزلان بدأت تخرج من مخابئها. بدا كأن الطبيعة نفسها تردّ التحية للملك الجديد
الذي تغيّر دون سحر.
وفي يومٍ من الأيام، أعلن القصر عن إقامة حفلة الربيع الكبرى، وهو احتفال سنوي لعودة الحياة
بعد الشتاء. دعا الملك الجميع، من النبلاء إلى الخدم، حتى لا يبقى أحد خارج الفرح. كانت
الساحرة، الخادمة الآن، منشغلة بإعداد الولائم، لا تتخيل أنها ستكون جزءًا من الاحتفال.
لكن المفاجأة حدثت حين ناداها كبير الحرس فجأة، وقال:
"الملك يريدك في القاعة الكبرى."
دخلت مترددة، مغطاة ببقع الدقيق والدخان، فوجدت الملك واقفًا وسط الحضور بثيابٍ فاخرة،
يحمل تاجًا من الزهور بدل الذهب. ابتسم وهو يراها، وتقدّم خطوة قائلاً:
"هذه المرأة... هي التي علمتني معنى الرحمة. هي التي جعلتني أرى الحياة لا الغابة، القلب لا
الفريسة."
ثم أشار إليها أمام الجميع، وأضاف:
"من اليوم، أعلنها الأميرة المائة — لا لأنها من دمٍ نبيل، بل لأنها أعادت مائة قلب إلى الحياة،
أولهم قلبي."
ساد الصمت في القاعة، ثم تعالت التصفيقات. كانت الساحرة عاجزة عن الكلام، والدموع تملأ
عينيها. لم يكن السحر الذي فشل في الغابة هو الذي بدّل الملك، بل إنسانيتها وصبرها.
اقترب منها الملك، وقال بصوتٍ خافت لا يسمعه سواها:
"كنت أشعر أنني أعرفك من قبل... ربما من حلم قديم."
ابتسمت وقالت:
"ربما لأن الأرواح تلتقي قبل أن تلتقي الأجساد."
في تلك الليلة، خرج الملك إلى شرفة القصر، ونظر إلى القمر، ثم رفع يده وأقسم أمام الجميع:
"أقسم ألا أرفع قوسي على مخلوق حيّ بعد اليوم. فالحياة أقدس من مجدي، والطبيعة ليست
ساحة حرب بل أمّنا التي تُحبنا جميعًا."
ومنذ ذلك اليوم، تغيّرت المملكة كلها.
نُزعت الأقواس من الجدران، وزُرعت الأشجار مكان الميادين القديمة.
تحوّلت أراضي الصيد إلى حدائق مفتوحة، وأصبح الناس يعيشون في وئام مع كل ما حولهم.
أما الساحرة الخضراء، فقد عادت شيئًا فشيئًا إلى قوتها، لكنّها لم تعد كما كانت — لم تعد
"ساحرة" بل امرأة تعرف أن السحر الحقيقي هو في الرحمة.
يُقال إن الغابة صارت تنير ليلاً بأزهارٍ مضيئة لا تنبت إلا في تلك المملكة، وإن الطيور تنشد ألحانًا
لا تشبه غيرها. وكل من يمرّ بها، يسمع همسًا يقول:
"حين يُشفى قلب الملك، تُشفى المملكة."
وهكذا انتهت حكاية الملك والساحرة الخضراء، لا كقصة عن صيدٍ أو سحر، بل كأعظم قصة عن
تحول الإنسان من القسوة إلى الرحمة، وعن كيف يمكن للحب أن يعيد ترتيب ممالك بأكملها.


