ظلال الغيرة في البندقية

ArabStories
0

 





🕯️ الفصل الأول: الغريب والمدينة

كانت البندقية قبل أربعة قرون عالماً من السحر والماء والضباب. مدينةٌ يطفو فيها الجمال

 فوق القنوات، وتختلط فيها رائحة البحر بعطر الورود التي تتدلى من الشرفات الحجرية.

في أحد تلك الأزقة، كان يسير عُطَيل — رجل طويل القامة، أسمر البشرة، بعينين تحملان حكمة

 الغربة ووجع السنين. أتى من المغرب محاربًا في جيش الجمهورية، فذاع صيته بين القادة،

 ليس فقط لشجاعته، بل لصفاء قلبه وذكائه.


كان الغرباء نادرين في البندقية، لكن عطيل كسب احترام الجنود والنبلاء. وفي خضم ذلك

 الصخب، التقى بها… ديدمونة.


كانت ابنة أحد كبار نبلاء المدينة، جميلةً كلوحة رُسمت على ضوء الشموع. لم تكن مثل غيرها من

 الفتيات اللواتي ينظرن إلى عطيل بعين الاستغراب. كانت تنصت إليه باهتمام حقيقي، تحب

 حديثه عن الصحراء المغربية، وعن الليالي التي يملؤها نجم لا يغيب.

ومع الأيام، صار الحديث حُبًّا، والحب وعدًا، والوعد زواجًا، رغم اعتراض أبيها الذي رأى في عطيل

 رجلاً "من بلادٍ بعيدة، لا ينتمي إلينا".


لكنها تمسّكت بحبها. قالت له في إحدى الليالي المطيرة:


"قلبي لا يعرف الحدود، ولا يسمع لنداء الدم أو العِرق، بل لصدقك يا عطيل."


وهكذا، تزوجا في احتفالٍ بسيط، وسط دهشة الجميع.



⚔️ الفصل الثاني: ظلّ الحسد

في تلك الليلة نفسها، كان هناك رجلٌ يرقب المشهد من بعيد، بعينين مليئتين بالحقد. اسمه

 ياغو، أحد الضباط في جيش عطيل، رجل بارع في الكلام، لكنه يحمل داخله فراغًا أسود.

كان ينتظر أن يُرقّى إلى رتبة القائد المساعد، لكن عطيل اختار كاسيو، ضابطًا شابًا لبقًا ومحبوبًا

 بين الناس. شعر ياغو بالإهانة، وتحوّل طموحه إلى غضبٍ دفين.


قال لنفسه وهو يشاهد عطيل وديدمونة يخرجان من الكنيسة:


"لقد أخذ كل شيء: المجد، والحب، والاحترام… لكني سأجعل قلبه يلتهمه بنفسه."


ومن تلك اللحظة، بدأت خيوط المؤامرة تُنسج في الظلام.



🕰️ الفصل الثالث: اللعب بالنار

بدأ ياغو تنفيذ خطته ببطء شديد، كما يفعل السم حين يتسلل في الدم دون أن يُشعَر به.

كان يقف إلى جانب عطيل كل يوم، يمدحه أمام الجميع، ثم يهمس له بعد لحظاتٍ بعباراتٍ

 صغيرة، عابرةٍ، لكنها مشبعة بالسم.


قال له ذات مساء:


"مولاي، كاسيو رجل لطيف حقًا، والسيدة ديدمونة لا تكفّ عن الحديث عنه. يبدو أنهما صديقان

 قديمان."


لم يعلّق عطيل. اكتفى بابتسامة هادئة، لكنه في داخله شعر بوخزة خفيفة. لم تكن الغيرة قد

 استيقظت بعد، لكنها تحرّكت.

وبينما كان عطيل يقود حملته العسكرية ضد القبارصة، كان ياغو يهمس للجنود بأكاذيب

 صغيرة. قال لأحدهم:


"لو رأيتَ كيف تنظر ديدمونة إلى كاسيو، لشككتَ في إخلاصها."


وهكذا انتشرت الشكوك كما تنتشر النار في الحطب.



💔 الفصل الرابع: المنديل

كانت ديدمونة تعتزّ بمنديلٍ حريري صغير، مطرّز بخيوطٍ ذهبية. كان أول هدية من عطيل، رمز

 حبّهما الأبدي.

في أحد الأيام، سقط المنديل أثناء حديثها مع كاسيو، فالتقطته خادمتها — وكانت زوجة ياغو

 — وبدافعٍ بريء، أعطته لزوجها.


رآه ياغو في يده وقال مبتسمًا:


"القدر نفسه يساعدني."


في اليوم التالي، دسّ المنديل في غرفة كاسيو، ثم ذهب إلى عطيل ليُتم المسرحية:


"مولاي… رأيتُ كاسيو يحمل منديلًا يشبه تمامًا ذلك الذي أهديته لزوجتك."


تجمّد وجه عطيل، وتبدّل صوته.


"هل أنت متأكد يا ياغو؟"

"رأيته بعينيّ، ولعلها أخطأت حين تركته عنده..."


ومنذ تلك اللحظة، بدأ الانهيار.



🌑 الفصل الخامس: الغيرة

مرت ليالٍ لم ينم فيها عطيل. كان يجلس في شرفته المطلة على القناة الكبرى، يحدّق في الماء

 وكأن صور ديدمونة وكاسيو تنعكسان عليه.

سمع ضحكتها في خياله، ورأى خيانتها في أوهامه.

وفي قلبه، اشتعلت نار لم يستطع إطفاءها.


في إحدى الليالي، واجهها:


"أريد الحقيقة، يا ديدمونة. هل خنتِني؟"

نظرت إليه بعينين دامعتين:

"أخونك؟ كيف تخطر ببالك مثل هذه الكلمة؟ لقد أحببتك كما لم أحب أحدًا."


لكن عقله لم يسمع. رأى المنديل بيد كاسيو في وقتٍ لاحق، فازداد يقينه الزائف.

قال لياغو في غضبٍ مكبوت:


"سأسترد كرامتي بيدي، ولو كان الثمن دمي."



⚡ الفصل السادس: المواجهة

في ليلةٍ غائمة، عاد عطيل إلى بيته بعد سهرةٍ دعا إليها كاسيو. كان يترنح بين الغضب واليأس.

دخل غرفة زوجته، كانت نائمة بهدوءٍ بريء، وعلى الطاولة بجوارها المنديل ذاته.

تردد، ثم همس لنفسه:


"إنها لم تنكر... ولم تبرر... ربما هذا هو المصير."


اقترب منها ببطء، ووضع يده على شعرها. استيقظت بخوف.


"عطيل؟ ما بك؟"

"أحببتك أكثر مما يجب."

"وهل في الحب خطأ؟"

"نعم… حين يختلط بالغيرة."


لكن قبل أن تمتد يده إلى الشر، سُمع صوت من الباب. كانت إميليا، زوجة ياغو، تصرخ:


"مولاي، توقف! لقد خدعك ياغو!"


تجمّد عطيل. نظرت إليه ديدمونة، غير مصدقة.

قالت إميليا وهي تبكي:


"المنديل سرقه زوجي ودسّه في غرفة كاسيو! إنها بريئة يا مولاي!"


تراجع عطيل خطوة إلى الوراء، كأنما صُفع بالواقع.

جلس على الأرض، وانهار صوته بالبكاء:


"يا الله… لقد كنت أعمى."



🌅 الفصل السابع: فجر الخلاص

حين أُمسك بياغو، حاول الإنكار، لكن الحقيقة كانت أقوى من كل كذبة. أُعدم بعد محاكمته، وأعيد

 اعتبار ديدمونة أمام مجلس النبلاء.

أما عطيل، فانسحب من الجيش، وسافر مع زوجته إلى الريف بعيدًا عن ضجيج البندقية.

هناك، عاشا بصمتٍ طويل، وكأنهما يحاولان بناء ما دمّرته الغيرة.


ذات صباح، جلست ديدمونة على شرفة تطل على البحر، والمنديل في يدها. قالت له بابتسامة

 حزينة:


"هذا المنديل جلب لنا الألم، لكنه كان أيضًا البداية."


أجابها:


"بل هو تذكار بأن الحب الحقيقي لا يموت، لكنه يحتاج إلى الصدق ليعيش."


ومع شروق الشمس على البحر، كان عطيل يكتب في دفتره الصغير:


“لقد علمتني الغيرة أن أثق، وعلمتني ديدمونة أن الغفران أقوى من الموت.”



🌺 الفصل الثامن: معنى الأمل

بعد أعوامٍ من تلك الحادثة، صار الناس في البندقية يروون حكاية “الجنرال المغربي وزوجته

 الجميلة” لا كمأساة، بل كمعجزة نجاة.

يقولون إنهما أعادا بناء بيتهما على أنقاض الشك، وإن حبهما صار درسًا يتناقله العشاق:


“من يزرع الغيرة يحصد الرماد، ومن يزرع الثقة يجني الخلود.”


وفي كل عام، في يومٍ غائم من أيام الخريف، تُلقى وردةٌ بيضاء في مياه القناة الكبرى، ترمز إلى

 ديدمونة،

ووردة حمراء ترمز إلى عطيل،

تلتقيان في الموجة نفسها، كما التقيا في الحياة: بعد الألم... يأتي الصفاء.



إرسال تعليق

0 تعليقات
إرسال تعليق (0)