منذ الطفولة، لم يكن "سامر" يحب الصور المعلّقة على الجدران. كان يكره تلك العيون الثابتة
التي تتبعه أينما تحرك، وكأن داخل كل صورة روحًا تراقبه بصمت. مع مرور السنوات، تجاوز ذلك
الخوف الطفولي، أو على الأقل أقنع نفسه أنه تجاوزه.
لكن كل شيءٍ عاد بقوة… عندما اشترى تلك الصورة القديمة.
بداية القصة
كان سامر قد انتقل مؤخرًا إلى شقة جديدة في الطابق الأخير من عمارة قديمة بنيت في
الخمسينات. شقة واسعة ورخيصة السعر على غير العادة، الأمر الذي جعله لا يطرح الكثير من
الأسئلة. كان يريد فقط مكانًا هادئًا ليستقر فيه بعد أشهر من التنقل بسبب عمله.
في أحد الأيام، وبينما كان يتجول في سوق للأغراض المستعملة، توقفت عيناه على صورة
قديمة مؤطرة بإطار خشبي أسود. الصورة كانت لامرأة ترتدي فستانًا كلاسيكيًا، وتنظر بجانب
وجهها نحو اليسار، بعينين تحملان عمقًا مريبًا. لم تكن الصورة جميلة، لكنها كانت تجذب النظر
بطريقة غريبة… شيء في تلك العيون يجعلك تشعر أنها تعرفك.
سأل سامر البائع:
ـــ من صاحبة هذه الصورة؟ تبدو قديمة جدًّا.
رد البائع بنبرة سريعة وكأنه يريد التخلص منها:
ـــ لا أعرف… وصلتني مع أغراض من منزل تم إخلاؤه بعد وفاة أصحابه.
العبارة لم تؤثر في سامر. بالعكس، أعطت الصورة قيمة "غموض" جعلته يرغب بها أكثر.
دفع ثمنها، وعاد بها إلى شقته.
علّقها على جدار غرفة الجلوس، فوق الأريكة مباشرةً. وقبل أن يخرج من الغرفة، ألقى نظرة
أخيرة… شعر وكأن المرأة في الصورة تنظر إليه مباشرةً هذه المرة. كتم الشعور الغريب
وتجاهله.
لكن تلك كانت البداية فقط.
الليلة الأولى: النظرة الموجّهة
في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، استيقظ سامر عطشًا. أثناء مروره بغرفة الجلوس ليتجه
إلى المطبخ، لمح شيئًا غريبًا من زاوية عينه… الصورة بدت مختلفة.
وقف أمامها وأمسك هاتفه ليضيء المكان.
كانت المرأة في الصورة تنظر الآن إلى الأمام مباشرة، نحو المشاهد.
سامر تجمّد للحظات. اقترب أكثر، ظنّ أنه يتوهم. ربما الضوء أو زاوية النظر تجعل الصورة تبدو
كذلك.
ضحك لنفسه وقال:
ـــ تهيؤات… من التعب فقط.
عاد إلى النوم.
لكن في داخله… شعر بقلق لم يستطع تفسيره.
الليلة الثانية: التغيير الأكبر
الساعة 02:47 بعد منتصف الليل.
استيقظ سامر مجددًا، هذه المرة على صوت… خربشة خفيفة قادمة من غرفة الجلوس.
فتح الباب ببطء. كل الأنوار كانت مطفأة، لكن ضوء القمر دخل من النافذة، كافيًا لرؤية الصورة.
كانت المرأة قد غيرت وضعيتها بالكامل.
هذه المرة كانت أقرب إلى مقدمة الصورة، وكأنها تقدمت إلى الأمام. وجهها أصبح أكبر قليلًا،
والظلّ خلفها اختفى.
سامر أحسّ ببرودة في أطرافه. اقترب من الصورة، ولمس الإطار الخشبي. كان الإطار دافئًا
بطريقة غير مريحة، وكأنه يحمل حرارة جسدٍ بشري!
هَمَسَ لنفسه:
ـــ كيف…؟ هل أنا أحلم؟
في تلك الليلة لم ينم.
الليلة الثالثة: الهمس
كان سامر يشعر بالارهاق طوال اليوم، لكنه رفض فكرة نزع الصورة. جزء منه كان عنيدًا، وجزء
آخر كان فضوليًا يريد معرفة ما سيحدث.
تمام الثالثة فجرًا، وبينما هو مستلقٍ، سمع صوت همس بعيد… قادم من غرفة الجلوس.
"سامر…"
الصوت كان واضحًا، لا يشبه صوت الريح ولا أي صوت آخر. وكأنه صوت أنثى… يأتي من الصورة
نفسها.
نهض مذعورًا، اندفع نحو الغرفة، وأشعل الضوء.
الصورة كانت مختلفة مرة أخرى.
هذه المرة، كانت المرأة أقرب بكثير، وملامح وجهها تحولت إلى شيء مرعب.
كانت تبتسم.
لكنها لم تكن ابتسامة جميلة… كانت ابتسامة ملتوية، مشوّهة، مليئة بالحقد.
فجأة…
سقط إطار الصورة على الأرض دون أن يلمسه أحد.
تحطم الزجاج، لكن الصورة… لم يصبها أي خدش.
بداية الرعب الحقيقي
في اليوم التالي، قرر سامر التخلص من الصورة. وضعها في حقيبة، واتجه إلى مكب النفايات في
آخر الشارع ورماها بنفسه. بقي واقفًا يتأكد أنها لم تسقط خارج الحاوية.
عاد إلى شقته وهو يشعر براحة كبيرة.
لكنه عندما فتح الباب ودخل غرفة الجلوس…
كانت الصورة معلقة في مكانها على الجدار.
نفس الإطار
نفس الوضع
نفس الابتسامة الشيطانية
سامر انهار. جلس على الأرض، ويده ترتجف فوق رأسه.
ـــ هذا غير ممكن… غير ممكن!
في تلك الليلة غادر الشقة ونزل إلى بيت صديقه، لم يخبره شيئًا حتى لا يُتهم بالجنون.
التحقيق في الماضي
في اليوم التالي، عاد سامر إلى السوق حيث اشترى الصورة. أراد معرفة الحقيقة.
اقترب من البائع، وقال له بصوت غاضب:
ـــ الصورة التي بعتها لي… ماذا تعرف عنها؟ قل الحقيقة!
البائع شحب وجهه، وقال بصوت منخفض:
ـــ تلك الصورة… لا أحد يحتفظ بها. كل من امتلكها أخبرني أنها تتحرك… أحدهم فقد عقله، وآخر
اختفى. قيل إن المرأة التي في الصورة كانت فنانة، وقُتلت طعنًا في مرسمها بينما كانت تُرسم.
وقبل موتها، قالت جملة واحدة: "سأبقى في لوحتي… وسأعود."
سامر شعر بقشعريرة تسري في جسده.
ـــ لماذا لم تخبرني منذ البداية؟!
ـــ كنت تعتقد أنني أمزح… الكل يعتقد ذلك.
سامر خرج من المحل وهو يحمل خوفًا أكبر بكثير من أمس.
العودة الأخيرة إلى الشقة
في هذه الليلة، كان سامر ينوي مواجهة الصورة للمرة الأخيرة. أخذ معه ولاعة، وقارورة بنزين،
وسكينًا.
دخل الشقة بهدوء. الأنوار كانت مطفأة، وهدوء غريب يخيم على المكان… لكنه شعر أن هناك
شيئًا ينتظره.
وقف أمام الصورة.
كانت المرأة الآن أقرب مما كانت في أي مرةٍ سابقة. وجهها أصبح شبه واقعي، كأنها تخرج من
داخل اللوحة.
اقترب سامر، وهمس لها:
ـــ انتهى هذا… لن تبقي هنا أكثر.
سكب البنزين على الصورة، وأشعل الولاعة.
لكن النار… لم تلمس اللوحة.
الهب flames صعدت إلى السقف وتلاشت، كأن الصورة تبتلعها.
وفجأة… خرجت يد من داخل اللوحة. يد بشرية، شاحبة، ممزقة الأظافر، أمسكت سامر من كتفه
بقوة.
صرخ، حاول تحرير نفسه، لكنها جرّته نحو اللوحة. شعر بجسده يدخل عالمًا مظلمًا خلف الإطار.
آخر جملة سمعها قبل أن يُسحب بالكامل:
ـــ قلت لك… سأعود.
الخاتمة
في اليوم التالي، وجد الجيران باب شقة سامر مفتوحًا. كل شيء بداخل الشقة كان مرتبًا،
باستثناء شيء واحد…
الصورة اختفت.
لكن بعد أسبوع، ظهرت الصورة في سوق الأغراض المستعملة مجددًا… هذه المرة، كان
الشخص داخل الصورة رجلًا… رجل يشبه سامر.
وعيناه تتبع كل من يمر أمامها.

.png)
