كان “ياسر” شابًا يعشق السفر إلى الأماكن النائية واكتشاف ما هو غريب وعجيب. اعتاد أن
يبتعد عن المدن الصاخبة ويبحث عن قرى مهجورة أو أماكن تحمل قصصًا غامضة، ليوثق
رحلاته على قناته الخاصة. لكن تلك الرحلة بالذات، لم تكن مجرد مغامرة… بل كانت بداية قصة لم
يستطع نسيانها طوال حياته.
بداية اللغز
في إحدى الليالي، بينما كان يبحث عن أفكار جديدة لإعداد محتوى بعنوان “قصص غريبة وعجيبة
من العالم”، وجد تعليقًا على أحد فيديوهاته:
"إن كنت حقًا تبحث عن الغريب… اذهب إلى قرية اسمها (أَرْدِيل). الزمن هناك ليس طبيعيًا."
لم يجد أي شيء عن هذه القرية في Google، ولا في الخرائط، وكأنها لا وجود لها. لكن الغريب أن
كل من ذكرها في التعليقات كان يكتب نفس الجملة تقريبًا… بنفس الأسلوب… وكأنهم يكررون
كلامًا محفوظًا.
أحس ياسر بالفضول. في اليوم التالي، حمل حقيبته وكاميرته، وانطلق بسيارته نحو المنطقة
المجهولة حيث قالوا إن القرية تقع.
الطريق كان موحشًا، بلا إشارات، بلا أسماء مدن، فقط أشجار كثيفة وسماء ثقيلة بالغيوم.
وعندما وصل عند لوحة صدئة كتب عليها: "مرحبًا بكم في أَرْدِيل" بدأت الأحداث الغامضة.
اللحظة الأولى التي تكررت
دخل ياسر القرية. كانت هادئة بشكل مبالغ فيه، لدرجة أنه شعر أن الزمن هنا لا يتحرك. لا صوت
سيارات، لا أطفال، فقط صمت.
ثم رأى مشهدًا غريبًا:
امرأة تقف أمام منزلهــا، تحمل سلة من التفاح، تسقط تفاحة منها على الأرض، تنحني
لالتقاطها، ثم تبتسم لرجل يمر بجانبها.
مشهد عادي… لكنه بعد خمس دقائق تكرر بالكامل أمام عينيه.
نفس التفاحة… نفس الابتسامة… نفس السقوط.
ظن ياسر أن الأمر مجرد مصادفة، لكنه قرر أن يقف ويراقب. خمس دقائق أخرى، نفس المرأة،
نفس السلة، نفس السقوط… وكأن الزمن يعيد نفس اللقطة.
بدأ ياسر يشعر برعشة في جسده. همس لنفسه:
"أنا في قرية يعيش سكانها نفس اللحظة كل يوم؟"
السكان لا يشعرون بشيء
اقترب من الرجل الذي كان يمر بجانب المرأة عند سقوط التفاحة.
– السلام عليكم.
الرجل لم يرد.
– سيدي، هل تسمعني؟
ولا حركة.
المشهد بالكامل كان يعمل مثل تسجيل فيديو مُعاد.
ياسر حاول أن يلمس التفاحة الساقطة قبل أن تلتقطها المرأة… لكن يده مرت عبرها كأنها
ضباب أو وهم.
تراجع إلى الخلف، مذهولًا.
"هل هم بشر حقيقيون؟ أم ظلال؟ أم ذكريات؟"
النزل القديم
استمر بالمشي داخل القرية حتى وجد مبنى قديم مكتوبًا عليه: "نزل أَرْدِيل". على عكس السكان،
كان الباب قابلًا للفتح، والإضاءة من الداخل تعمل.
دخل… فوجد رجلاً عجوزًا يجلس خلف مكتب الاستقبال.
الغريب؟ الرجل تحرك وتكلم معه بشكل طبيعي.
– مرحبًا بك في أَرْدِيل، كنت أعلم أنك ستأتي.
– ماذا؟ كيف؟
– الجميع يأتي في النهاية. الفضول يجذبكم مثل الفراشات إلى النار.
جلس ياسر وهو يشعر بثقل في صدره.
– ما هذه القرية؟ ولماذا يتكرر كل شيء؟
أجاب العجوز بنبرة باردة:
– لأن الزمن هنا اختار أن يتوقف… والبشر هنا انتهوا منذ زمن، لكن اللحظة التي ماتوا فيها بقيت
عالقة.
ياسر ارتجف.
– ماتوا؟ كيف؟
العجوز رفع رأسه ببطء وقال:
– في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، في أحد الأيام العادية، حدث انفجار في محطة طاقة قريبة. لم
يشعروا بالألم. فقط… تجمد الزمن عند تلك اللحظة.
– لكن لماذا أراهم؟ ولماذا لا أشعر أنّهم أرواح؟
ابتسم العجوز ابتسامة مؤلمة:
– لأنك لست من هنا. أنت ترى الماضي عالقًا في حلقة زمنية.
اللحظة تتكرر… لكن هناك شخص يكسر التكرار
بينما كان ياسر يغادر النزل، لاحظ مشهدًا لم يكن جزءًا من التكرار:
طفلة صغيرة تقف عند نهاية الطريق، تحدق فيه مباشرةً.
نظراتها كانت واعية، مختلفة عن الجميع.
أشارت إليه بيدها أن يتبعها.
ركض خلفها، وسار معها بعيدًا عن الساحة التي يتكرر فيها المشهد. كانوا يقتربون من الغابة.
– لماذا أنتِ فقط من تتحرك؟ لماذا لا تتجمدين مثلهم؟
نظرت إليه وقالت بهدوء:
– لأنني لم أكن ضمن اللحظة. كنت خارج القرية حين حدث الانفجار.
– إذاً أنتِ على قيد الحياة؟
– جسدي… نعم. لكن روحي عالقة هنا.
الحقيقة التي لم يتوقعها
وقفت الطفلة أمام مبنى صغير مهجور يغطيه العشب. فتحته ودخلت. كان المبنى محطة
كهرباء متهالكة.
– هنا ماتوا، هنا توقفت الحياة.
ثم نظرت إلى ياسر بعينين ممتلئتين برجاء:
– ساعدني لأخرج. إن خرجت أنا، ستُحرر القرية. اللحظة ستنتهي.
– كيف؟
أشارت إلى لوحة كهربائية عليها زر كبير مكتوب فوقه: "إعادة تشغيل النظام".
– اضغط الزر، فقط.
ياسر بسط يده نحو الزر… لكن فجأة، سمع صوتًا خلفه:
– توقف.
كان العجوز الذي يدير النزل واقفًا عند الباب.
لكن ملامحه تغيرت… عيونه أصبحت سوداء بالكامل.
– إذا ضغطت الزر… ستختفي القرية. وأنا جزء من هذه اللحظة. وجودي مرتبط بها.
– أنت… لست إنسانًا، صحيح؟
ضحك العجوز بصوت عميق:
– أنا ظل الزمن.
مد يده بسرعة نحو ياسر، محاولاً منعه.
الطفلة صرخت:
– اضغط الآن!
ياسر تردد لثانية. هل يحق له محو قرية كاملة؟ حتى لو كانوا مجرد لحظة مجمدة؟
ثم نظر إلى الطفلة… إلى عينيها التي تطلب الخلاص… وضغط الزر بكل قوته.
الانهيار
أضواء المحطة اشتعلت بقوة.
الأرض اهتزت.
المشهد المتكرر في الخارج بدأ يتفكك، المرأة سقطت تفاحتها ثم اختفت، الرجل اختفى، البيوت
تلاشت كأنها غبار يتطاير في الهواء.
العجوز صرخ بصوت مرعب وهو يتلاشى:
– لا يمكنك… تغيير… الزمن…
الطفلة أغلقت عينيها، والضوء أحاط بالجميع.
… ثم حل الظلام.
الاستيقاظ
فتح ياسر عينيه. كان على جانب الطريق خارج القرية. الأرض فارغة.
لا توجد قرية.
لا بوابة.
لا نزل.
وكأن المكان لم يكن موجودًا أبدًا.
نهض يبحث عن أي أثر… لكنه وجد شيئًا واحدًا:
تفاحة حمراء على الأرض.
وبجانبها ورقة مكتوب عليها:
"شكرًا لأنك أعدت لي الزمن."
كانت التوقيع: "إيلا – آخر من بقي واعيًا."
النهاية… أم البداية؟
عاد ياسر إلى سيارته، وفتح هاتفه ليتفقد التعليقات على قناته.
فوجد تعليقًا جديدًا:
"هل زرت قرية أَرْدِيل؟ لا أحد يستطيع مغادرتها."
التعليق التالي:
"أحيانًا… اللحظة التي تحاول الهروب منها هي اللحظة التي تظل تعيش فيها."
عند تلك اللحظة، رن هاتفه بإشعار جديد.
كان من فتاة مجهولة… اسمها:
إيلا.
والرسالة كانت فقط:
"سأراك غدًا… في نفس اللحظة."

.png)
