في أحد القرى الجبلية النائية، حيث تمتدّ المروج الخضراء بين الجبال، كان يعيش راعٍ بسيط
يُدعى سليم. اعتاد أن يقضي أيامه بين أغنامه، يُحادثها كأنها بشر، ويغنّي لها بصوته الهادئ
تحت ظلّ شجرة الزيتون العتيقة. لم يكن في حياة سليم ما يُثير الدهشة، سوى أنه كان يحب
العزلة، ويؤمن أنّ في الجبال أسرارًا لا يراها إلا من عاش طويلاً بين صمتها.
في يومٍ من أيام الشتاء القارس، وبينما كان سليم يقود قطيعه نحو الوادي بحثًا عن العشب،
لاحظ أنّ أحد الخراف الصغيرة قد ابتعد عن القطيع. هرع يبحث عنه بين الصخور، حتى لمح خيالاً
أسود يختبئ خلف التلال. اقترب بخوف، فظهر أمامه ذئب ضخم ذو عينين لامعتين كالجمر.
لكن الغريب أنّ الذئب لم يهجم عليه... بل ظلّ واقفًا يراقبه في هدوء، وكأنّ شيئًا يمنعه من
الانقضاض.
ارتجف سليم، رفع عصاه وهو يتمتم بالدعاء، لكنّ الذئب فاجأه بصوتٍ بشريٍّ غريب يقول:
"لا تخف يا سليم... لن أؤذيك."
تجمّد الراعي في مكانه. ظنّ أنّه يهذي أو أنّ البرد جعله يتخيّل. مسح عينيه غير مصدّق، لكن
الذئب تابع قائلاً:
"لقد انتظرتك طويلاً... أنت المختار لسماع سرّ الغابة القديمة."
سقطت العصا من يد سليم، وتراجع خطوةً إلى الوراء، ثمّ همس متلعثمًا:
– من أنت؟ وكيف تعرف اسمي؟
ردّ الذئب:
"أنا ظلّ الغابة، وحارس الجبل منذ قرون. لم أعد ذئبًا كباقي الذئاب... أنا روح حارسٍ قديمٍ حُبس
في هذا الجسد بسبب خيانة البشر."
كانت الرياح تعصف، والثلوج تتساقط من القمم، لكنّ سليم نسي البرد والخوف. اقترب
بخطوات مترددة، وقال:
– وما الذي تريده مني؟
قال الذئب بصوتٍ عميق:
"الليلة، عند اكتمال القمر، سيُفتح الممرّ القديم في كهف الشمال. عليك أن تكون هناك، لأنّ
القدر يربط مصيرك بمصيري."
عاد سليم إلى بيته تلك الليلة وهو في ذهول. لم يخبر أحدًا بما رآه، لأنّ الناس في القرية يسخرون
ممّن يتحدث عن الأرواح. ظلّ صامتًا قرب الموقد، يتأمّل النار ويستعيد كلمات الذئب الغريبة.
لم يكن يعلم إن كان يعيش حلمًا أم يقظة، لكنه شعر بشيء في داخله يدعوه إلى الجبل.
وقبل منتصف الليل، خرج دون أن يخبر أحدًا، وسار في الظلام بين الأشجار. كان القمر مكتملًا،
يضيء الطريق كأنّ السماء نفسها ترشده. وعندما وصل إلى فوهة الكهف، وجد الذئب هناك،
ينتظره كما وعد.
قال سليم وهو يلهث من التعب:
– ها أنا ذا، فقل لي ما السر الذي جئت لأجله.
اقترب الذئب وقال:
"قبل مئات السنين، كان في هذا الجبل ملك ظالم، حوّل الغابة إلى مقبرةٍ للجنّ والحيوانات.
عاقبه الله بأن ربط روحه في جسدي، وجعلني أُكفّر عن خطاياه بحراسة الغابة حتى يأتي إنسانٌ
بقلبٍ طاهر يسمع قصتي ويُطلقني."
صُعق سليم من الكلام، وقال:
– ولماذا أنا؟
أجاب الذئب:
"لأنّك الوحيد الذي يخاطب المخلوقات برحمة، ولأنّ قلبك لا يعرف الكراهية."
في تلك اللحظة، بدأ الكهف يهتزّ، وظهرت نقوش مضيئة على الجدران. سمع سليم أصواتًا
همسَت كأنها تأتي من العالم الآخر. قال الذئب:
"ضع يدك على رأسي واقرأ ما سيُقال لك في قلبك."
فعل سليم ما طُلب منه، فشعر بحرارةٍ تسري في جسده. رأى صورًا متتابعة أمام عينيه: ملوكًا
قدامى، معارك دموية، وأرواحًا تطلب الغفران. ثمّ سمع صوتًا يقول:
"لقد أُطلق السحر، وعاد الحارس إلى موطنه."
اختفى الذئب فجأة وسط ضوءٍ ساطع، تاركًا وراءه رائحة الغابة وأثرًا من الدخان الفضيّ. سقط
سليم على الأرض، فاقد الوعي.
عندما استيقظ، وجد نفسه عند حافة الوادي، والشمس تشرق بهدوء. ظنّ أن كلّ ما حدث كان
حلمًا، لكنّ علامةً غريبة على شكل هلال كانت على كفّه. عاد إلى القرية، وحين أخبر الشيخ بما
جرى، ابتسم الشيخ العجوز وقال:
– سمعتُ عن تلك الأسطورة من أجدادي... إنّها نبوءة "ذئب الغابة"، الذي سيُحرَّر على يد راعٍ
طيب القلب.
ومنذ ذلك اليوم، أصبح الناس ينادون سليم بـ"الراعي المبارك"، وصار الكهف مقصدًا للزوّار الذين
يحكون عن همساتٍ غريبة تُسمع داخله وقت اكتمال القمر.
لكنّ سليم، في أعماقه، لم ينسَ النظرة الأخيرة في عيني الذئب... نظرة امتنانٍ غامضة، حملت
أسرارًا لم تُكشف بعد.
مرت سنوات طويلة، ولم يعد أحد يرى الذئب في الجبال. ومع ذلك، ظلّ القرويون يحكون قصّة
الراعي الذي كلّمه الذئب، حتى صارت من أشهر القصص الغريبة والعجيبة في تاريخ القرية.
أما سليم، فكان كلّ ليلة يرفع بصره نحو القمر، ويتساءل:
هل تحرّرت روح الذئب فعلاً؟ أم أنّها لا تزال تراقب الجبال بعيونٍ لا يراها البشر؟

.png)
