في أطراف قرية صغيرة محاطة بغابة كثيفة، كان هناك بيت قديم يعرفه الجميع باسم "بيت
الهمسات".
كان مهجورًا منذ أكثر من أربعين عامًا، ورغم مرور الزمن وتآكل جدرانه، ظل الناس يبتعدون عنه
وكأنه يحمل سرًّا أكبر من مجرد العزلة.
الأسطورة تقول إن البيت يسمع الأفكار، وإن كل من يبيت فيه ليلة واحدة يسمع صدى أفكاره
تتردّد في الجدران، تهمس له بأشياء يعرفها وحده، وأحيانًا... تردّ عليه.
بداية الغموض
كان سامر شابًا في الثلاثين من عمره، يعشق البحث عن القصص الغريبة والأماكن المهجورة.
يدير مدونة صغيرة بعنوان “قصص من وراء الواقع”، يزور فيها أماكن مسكونة أو غامضة
ويكتب عنها.
حين سمع سامر عن بيت الهمسات، قرر أنه سيكون موضوعه القادم، رغم تحذيرات أهل القرية
الذين قالوا له:
"من يدخل البيت لا يخرج كما كان..."
لم يصدقهم. كان يعتقد أن الخوف مجرد خرافة، وأن وراء كل قصة غريبة تفسيرًا منطقيًا.
الدخول إلى البيت
في مساءٍ ضبابي من شهر نوفمبر، وصل سامر إلى البيت المهجور.
الريح كانت تعصف، والأشجار تصدر صوتًا يشبه الهمس.
فتح الباب الصدئ الذي أصدر صريرًا طويلاً، كأنه أنين من الماضي.
دخل، وأشعل مصباحه اليدوي، فرأى الغبار يتطاير كأرواح صغيرة في الهواء.
الجدران كانت مغطاة بخطوط باهتة وكلمات غير مفهومة، وكأن شخصًا كتبها وهو في حالة
اضطراب.
تقدّم بخطوات بطيئة نحو غرفة الجلوس.
في تلك اللحظة، سمع همسًا خافتًا يأتي من الجدار:
"لِمَ عدتَ؟"
توقف فجأة.
ظن أنه تخيّل الأمر.
لكن الصوت تكرّر، أو بالأحرى... ردّد فكرته!
كان قد خطر بباله لتوّه: “هل يوجد أحد هنا؟”
فجاءه الهمس من الجدار الأيسر يقول:
"نحن هنا..."
شعر سامر بقشعريرة في جسده، وتراجع خطوة إلى الوراء، لكن فضوله كان أقوى من خوفه.
أسرار الجدران
بدأ يسجل ملاحظاته بصوته، يقول فيها:
“البيت يبدو وكأنه يستجيب للأفكار... كل فكرة تراودني تُهمس لي من مكان مختلف.”
جلس في منتصف الغرفة، أغمض عينيه، وحاول أن يفكر في شيء محدد.
فكّر في والدته التي فقدها قبل عامين، فإذا بالصوت يأتي من السقف، ناعمًا، حنونًا:
"لا تبكِ يا سامر..."
فتح عينيه في ذهول.
كان الصوت هو صوت أمه!
نهض بسرعة، وجهه شاحب، وصدره يعلو ويهبط من الخوف.
لكن الفضول القاتل دفعه للبقاء.
تجوّل في البيت أكثر.
في كل غرفة يدخلها، يسمع أفكاره تتردّد في شكل همسات مختلفة النبرة.
مرة صوت رجل، ومرة امرأة، وأحيانًا طفل صغير يضحك بطريقة مريبة.
الرسائل الخفية
في القبو، وجد دفترًا قديمًا مغبرًّا على طاولة مائلة.
كان مكتوبًا بخط نسائي أنيق:
"هذا البيت لا ينسى من سكنه... إنه يحفظ الكلمات، والأفكار، والدموع. كل همسة تُصبح جزءًا
منه."
قرأ أكثر، فوجد صفحات مليئة باعترافات امرأة اسمها ليلى كانت تعيش هنا قبل خمسين سنة.
كتبت في إحدى الصفحات:
"زوجي كان يسمع أصواتًا في الليل... يقول إن الجدران تردّ عليه. ظننت أنه يجنّ، حتى بدأت
أسمعها أنا أيضًا..."
توقف سامر عند جملة غريبة:
"في الليلة الأخيرة، طلب مني البيت أن أرحل، وإلا سيحتفظ بي إلى الأبد."
الليل الطويل
حين حلّ الظلام، قرر سامر أن يبيت في غرفة النوم ليختبر القصة بنفسه.
نصب كاميراته، وأطفأ المصباح.
الساعة تجاوزت منتصف الليل عندما بدأ يسمع تلك الهمسات من جديد.
لكن هذه المرة كانت أوضح، وأكثر قربًا من أذنه.
"لم يكن عليك أن تأتي..."
"نحن نعرف ما تفكر فيه الآن..."
"تريد الحقيقة؟ اقترب من الجدار..."
اقترب سامر وهو يرتجف.
مدّ يده ليلمس الجدار، فإذا به يشعر بحرارة غريبة، كأن الجدار ينبض بالحياة.
وفجأة... سمع دقات قلب تأتي من داخله!
صرخ وابتعد، لكن الجدار بدأ يتشقق ببطء، ومن الشقّ خرج هواء بارد ورائحة تراب رطب.
ثم ظهرت كتابة جديدة تتكوّن أمام عينيه بالحبر الأسود:
"من يسمع، يصبح صدى..."
الاختفاء
عند الفجر، لم يظهر سامر في الفندق الذي كان يقيم فيه.
بحثت عنه الشرطة، فوجدت سيارته خارج البيت، وكاميراته داخل غرفة النوم، تعمل حتى آخر
لحظة.
في التسجيل، كان آخر ما ظهر هو وجه سامر وهو يقول بصوت مرتجف:
“أشعر أن البيت يفكر بي... إنه يهمس بما في عقلي قبل أن أنطق به...”
ثم يسمع صوتٌ آخر يهمس:
"الآن أنت منا..."
بعد ذلك انقطعت الصورة.
لم يُعثر على سامر قط، لكن في أحد الجدران في القبو، ظهرت كتابة جديدة بخط واضح:
"سامر كان هنا... ولا يزال يسمع."
اليوم، لا أحد يجرؤ على الاقتراب من ذلك البيت.
لكن بعض السكان يقولون إنهم يسمعون أحيانًا أصواتًا غريبة في الليل، كأن شخصًا يتحدث
من الداخل.
وإذا اقتربتَ كثيرًا من الجدران، قد تسمع همسًا خافتًا يقول:
"هل تفكر بي؟ لأنني أفكر بك..."


