في ليلة شتوية باردة، كانت السماء تتلبّد بالغيوم وكأنها تُعلن غضبًا خفيًا، ثم فجأة، بدأ المطر
يهطل بغزارة لم تشهدها المدينة منذ أسابيع. الشوارع اكتست بلمعان الماء، والأضواء
المنعكسة على الأرض كانت تبدو كلوحات فنية تتحرك مع قطرات المطر. المدينة بدت وكأنها
تغسل تعب الأيام.
كان هناك شاب يُدعى "آدم"، شاب في منتصف العشرينات، هادئ الطباع، يعمل مصورًا محترفًا.
كان يؤمن دائمًا أن كل لحظة تحمل صورة تستحق الالتقاط. وبينما كان المطر يتساقط بغزارة،
حمل كاميرته وخرج إلى الشارع بحثًا عن لقطة مختلفة، لقطة قد تغيّر شيئًا ما في داخله.
وعلى الجهة الأخرى من الشارع، كانت هناك فتاة تُدعى "ليان"، طالبة في كلية الفنون، تحمل
مظلة حمراء صغيرة بالكاد تحميها من المطر المنهمر. خطواتها كانت مترددة، وكأن المطر
يحمل معها ذكريات قديمة تستيقظ كلما هطلت أول قطرة.
كانت ليان تحب المطر، لكنه أيضًا كان يوجعها. فهو يُذكرها بأمها التي كانت تدعوها دائمًا للنظر
إلى السماء حينما تمطر وتقول:
"المطر ليس ماء فقط… إنه رسائل رحمة من السماء."
منذ أن رحلت أمها، أصبح المطر صفحة تُفتح عليها مشاعرها، بعضها جميل وبعضها موجع.
**
عند تقاطع الطريق، حيث تتجمع المياه وتنهمر قطرات المطر بشدة، التقت العينان لأول مرة.
آدم كان يحاول ضبط كاميرته لالتقاط صورة لمشهد الشارع، وفي اللحظة التي رفع فيها
عدسته، ظهرت ليان في إطار الصورة، واقفة تحت المظلة الحمراء، شعرها المبلل ينسدل على
كتفيها، وعيناها المليئتان بالهدوء تراقبان المطر وكأنها في عالم آخر.
تجمّد آدم في مكانه. لم يشعر بهذا من قبل. هل يمكن لمشهد عابر أن يوقظ إحساسًا بهذا
العمق؟
اقترب بخطوات مترددة، ثم سألها بصوت هادئ:
— "هل يمكنني التقاط صورة لك؟ المنظر الآن… لا يتكرر."
نظرت إليه باستغراب ممزوج بابتسامة صغيرة:
— "ألن يبدو الأمر غريبًا؟ فتاة تحت المطر وعدسة تراقبها؟"
— "الغريب… هو أنك تبدين وكأنك جزء من المطر ذاته."
ضحكت بخجل، ووافقت.
اتخذت وضعًا بسيطًا، لم تتصنع شيئًا. لحظة نقية، مطر، مظلة حمراء، وفتاة تنظر للسماء.
ضغط آدم زر الالتقاط، وفي تلك اللحظة شعر بشيء مختلف، كأن ضوءًا قد مر داخله.
بعد لحظات، قال بخجل:
— "أنا آدم."
— "وأنا ليان."
ثم تفرق الاثنان، ولكن شيئًا ما كان يربط بينهما من دون أن يعرفا.
في اليوم التالي، عاد المطر يهطل، وكأن السماء أرادت أن تكمل ما بدأته.
آدم لم يستطع التوقف عن التفكير في الصورة ولا في الابتسامة التي ظهرت دون أن تحاول ليان
إخفاءها.
قام بطباعة الصورة، ووضعها في ملف خاص، ثم كتب خلفها:
"أحيانًا، لقطة واحدة تغيّر حياة كاملة."
قرر أن يذهب إلى نفس المكان الذي التقى فيه بها، لا لشيء سوى للاحتمال. احتمال اللقاء مرة
أخرى.
كانت الساعة تقترب من الخامسة مساءً حين وصل. المطر كان أقوى من اليوم السابق، وكأن
شيئًا كبيرًا على وشك الحدوث.
وفي اللحظة التي كاد يفقد فيها الأمل… ظهرت ليان من بعيد.
نفس المظلة. نفس الخطوات الهادئة.
اقترب منها مبتسمًا:
— "هل تؤمنين بالصدف؟"
— "بعد أمس، بدأتُ أشك أن الصدفة ليست صدفة كاملة."
ناولها الصورة المطبوعة. نظرت إليها بدهشة. كانت الصورة مذهلة، ليس لأنها كانت جميلة،
بل لأن آدم استطاع التقاط شعور المطر في عينيها.
قالت بنبرة تأثر:
— "وكيف استطعت أن تترجم المطر إلى إحساس؟"
أجاب بثقة:
— "الكاميرا ترى الملامح… لكن القلب هو من يلتقط الروح."
من تلك اللحظة بدأ بينهما حديث بسيط، لكنه كان عميقًا بما يكفي ليهز شيئًا داخلهما. تحدثا
عن الفن، وعن المطر، وعن اللحظات التي لا يمكن تكرارها.
مرت الأيام، وصار اللقاء تحت المطر طقسًا خفيًا بينهما.
لم يتفقا يومًا على موعد، لكنهما كانا يلتقيان دائمًا عند أول هطول.
في كل مرة، يزداد الفضول، ويكبر الارتباط.
آدم بدأ يرى في ليان كل تفاصيل الجمال التي كان يبحث عنها في صوره.
أما ليان، فقد وجدت في آدم الطمأنينة التي كانت تفتقدها في هذا العالم السريع المتغير.
كانت كلمة "قصص حب" مجرد عنوان قبل أن تعيش قصتها الخاصة.
وفي إحدى الأمسيات، وبينما المطر يعزف موسيقاه المعتادة، جلسا تحت مظلة واحدة. كانت
المظلة قريبة جدًا لدرجة أن قلبين كانا يسمعان نبضهما.
سألها آدم فجأة:
— "ليان، لماذا تحبين المطر إلى هذا الحد؟"
نظرت إلى الأرض قليلًا، ثم قالت بصوت منخفض:
— "لأن أحدهم اختفى ذات يوم تحت المطر، ولم يعد أبدًا. لكن المطر هو الشيء الوحيد الذي بقي
لي منه."
فهم آدم الألم دون شرح.
قال برقة:
— "هل تسمحين أن يكون المطر… بداية جديدة، لا ذكرى مؤلمة؟"
نظرت إليه بعينين دامعتين:
— "وهل تستطيع ذلك؟"
أجاب بلا تردد:
— "سأحوّل كل قطرة مطر إلى سبب يجعل قلبك يبتسم وليس يوجع."
في أحد الأيام، توقّف المطر لأسبوع كامل.
كانت المدينة جافة كالصحاري، وكأنها في حداد.
ليان شعرت بأن روحها ناقصة، فقد اعتادت اللقاء تحت المطر.
آدم لم يتصل، لم يرسل رسالة، لكن قلب ليان كان يعرف أن الغياب ليس نهاية، بل بداية اختبار.
وفي اليوم الثامن، بدأ المطر يتساقط بخفة، ثم اشتد تدريجيًا.
خرجت ليان مسرعة إلى المكان الذي اعتادوا اللقاء فيه. قلبها ينبض بقوة.
لكن آدم لم يكن هناك.
بدأت الدقائق تمر، والمطر يزداد.
ومع كل دقيقة كانت تشعر أن قلبها يبتل أكثر من ثيابها.
وفجأة…
ظهر آدم من خلفها، يحمل مظلة سوداء كبيرة، ووجهه مليء بالمطر والقلق.
— "كنت أبحث عنك في كل مكان."
— "وأنا… كنت أنتظرك هنا."
اقترب منها، وضع المظلة فوقهما، ثم قال:
— "ليان… هل تريدين أن تبقي قصتنا تحت المطر فقط؟ أم تحت كل سماء؟"
توقفت ليان عن التنفس للحظة.
هل كان ما تسمعه اعترافًا…؟
أكمل آدم وهو ينظر في عينيها مباشرة:
— "أنا لا أريد أن تكوني صدفة في حياتي."
— "وأنا… لا أريد أن أكون ذكرى مؤقتة في صورك."
ابتسم:
— "أنتِ لستِ صورة… أنتِ الحكاية."
تلك الليلة كانت بداية قصة حب حقيقية،
قصة لم تُكتب على ورق، بل على قطرات المطر.
بعد أسابيع من اللقاءات الطويلة، اصطحبها آدم إلى معرضه الفني.
كان هناك جدار كبير معلق عليه صورة واحدة فقط.
الصورة كانت لليان تحت المطر… نفس الصورة الأولى.
وفوقها كتب:
"العاشقان اللذان جمعهما المطر."
ليان وقفت أمام الصورة، وقلبها يتسارع.
همس آدم في أذنها:
— "من قال إن الحب لا يبدأ بلقطة صدفة؟ أحيانًا، لقطة واحدة تكشف باقي العمر."
التفتت إليه، وقالت بصوت مرتجف:
— "وهل ستكون أول وأخر لقطة؟"
مسح قطرات المطر المتخيلة من على خدّها، وأجاب:
— "سترين… إن الحب الذي يبدأ بالمطر لا ينتهي أبدًا."
وهكذا، تحولت الصدفة إلى حب…
وتحول اللقاء إلى قدر…
وتحول المطر إلى بداية أجمل حكاية عشق.

.png)
