في مدينة صغيرة تطل على البحر، كانت جوليت تعيش حياة هادئة بين بيتٍ عتيق وحديقةٍ مليئة
بالورود. كانت تحبّ الصباح الهادئ وصوت الموج حين يلامس الصخور، وتشعر أن البحر هو
الصديق الوحيد الذي يفهم صمتها الطويل.
أما ريمو، فكان شابًا يحمل في قلبه ألف حلم، يعمل في متجرٍ صغير للمجوهرات، ويحلم أن
يصنع خاتمًا يحمل بصمته الخاصة ويهديه يومًا لفتاةٍ تُشبه الضوء.
ذات صباحٍ، دخلت جوليت المتجر تبحث عن هديةٍ لأمها، وهناك، التقت عيناها بعيني ريمو. كانت
تلك اللحظة كأنها مشهدٌ سينمائي توقف فيه الزمن، إذ شعر كلاهما بأن شيئًا غريبًا يجمع
بينهما، شيء أكبر من مجرد إعجابٍ عابر.
ابتسم ريمو وقال بخجل:
"هل أساعدك في اختيار الهدية؟"
ابتسمت جوليت وهي تشير إلى عقدٍ ذهبي يحمل قلبين متداخلين:
"أعتقد أن هذا مناسب... لكنه يبدو باهظًا."
ردّ بابتسامةٍ دافئة: "الجمال لا يُقاس بالثمن، بل بما يُضيفه من سعادة."
ومن تلك الجملة بدأت الحكاية.
بدأت جوليت تزور المتجر من حينٍ لآخر، بحججٍ بسيطة: مرة لتغيير علبة المجوهرات، وأخرى
لتلميع الخاتم. لكن في كل زيارة، كانت تقضي دقائق طويلة تتحدث مع ريمو عن الموسيقى،
وعن الأحلام، وعن الحياة البسيطة التي يهرب إليها القلب من صخب الواقع.
مع مرور الأيام، صار ريمو ينتظر قدومها كمن ينتظر نسمة هواء في صيفٍ خانق. وفي إحدى
الأمسيات، حين غابت الشمس خلف الأفق، دعاها للمشي على الشاطئ.
هناك، جلسا صامتين، يستمعان إلى هدير الأمواج. ثم قال ريمو بصوتٍ خافت:
"هل تصدّقين أنني كنت أراك في أحلامي قبل أن أتعرف عليك؟"
نظرت إليه جوليت بدهشةٍ ممزوجة بالخوف، وكأنها سمعت شيئًا من الغيب.
ابتسم وأضاف:
"أشعر أن لقاءنا لم يكن صدفة، بل وعدًا قديمًا وُلد قبلنا."
مرت الشهور، وكبر الحب بينهما مثل شجرةٍ قوية الجذور. كانت جوليت تجد في ريمو أمانًا لم
تعرفه من قبل، وكان هو يرى فيها معنى الحياة.
لكنهما لم يكونا يعلمان أن القدر يُخبّئ فصلاً مختلفًا من القصة.
في أحد الأيام، تلقى ريمو عرض عملٍ مغريًا في مدينةٍ بعيدة، فرصة نادرة لتحسين وضعه
وتحقيق حلمه في افتتاح متجر خاص به. أخبر جوليت، متوقعًا أن تفرح له، لكنها شعرت أن
الأرض انسحبت من تحت قدميها.
قالت وهي تحاول إخفاء دموعها:
"ولِمَ لا نواجه الحياة هنا سويًا؟ أليس الحب كافيًا؟"
أجابها بعينين دامعتين:
"الحب جميل، لكنه لا يُطعمنا ولا يُؤمّن مستقبلنا. سأعود قريبًا، أعدك."
لكن الأيام تحوّلت إلى شهور، والشهور إلى عامٍ كامل. انقطعت رسائله شيئًا فشيئًا، حتى صار
الصمت هو اللغة الوحيدة بينهما.
في المدينة البعيدة، كان ريمو يعمل ليلًا ونهارًا، يحاول بناء مستقبله، لكن قلبه كان معلقًا
بجوليت. أراد أن يعود، لكنه كان يخاف أن يعود بلا شيء.
أما جوليت، فكانت تزور الشاطئ كل مساء، تجلس في المكان نفسه الذي جلسا فيه أول مرة،
وتحدّق في الأفق علّها ترى طيفه يعود من بين الموج.
وذات يومٍ، تلقت رسالة قصيرة منه تقول:
"جوليت، سامحيني... لقد تعبت من الوعود. لم أعد كما كنت. الحياة غيّرتني."
سقطت الرسالة من يدها، وشعرت أن قلبها انكسر إلى ألف قطعة.
لم تبكِ في البداية، بل جلست صامتة، تنظر إلى البحر وتهمس:
"حتى البحر تغيّر... فكيف لا يتغيّر الإنسان؟"
مرت السنوات، وتزوج ريمو من فتاةٍ أخرى في المدينة الجديدة، بينما بقيت جوليت وفيّة لذكراه.
كانت تراه أحيانًا في الأحلام، يبتسم لها من بعيد، وكأنه يقول:
"كنتِ أجمل فصلٍ في حياتي، لكني لم أستطع أن أكون بطله للنهاية."
وفي ليلةٍ ممطرة، جلست جوليت في شرفتها تستمع إلى أغنيتهما القديمة، وفجأة ابتسمت
وهي تهمس لنفسها:
"ربما لم يكن القدر cruel كما ظننت... ربما كان يريد أن يعلّمني أن الحب لا يُقاس بالبقاء، بل بما
تركه فينا من أثر."
أغلقت عينيها، وشعرت أن قلبها أخيرًا وجد سلامه.

.png)
